مجزرة التضامن في سورية .. كي لا ننسى
هل تغير هذا العالم إلى الأسوأ، حيث لم يعد هناك ما يرضينا؟ أم إننا لم نعد نرى النور بسبب هذه السنوات العجاف التي تمر بها بلادنا؟ أم إن النفاق، الأنانية، الجشع وحب الذات والسلطة تصنع إنسانًا همجيًا؟
هل يصير الجلاد أعمى إلى هذا الحد؟ لا يرى الجمال في عيون الآخرين الذين يشبهونه.
إلى أين تمضي بنا أيها الليل شديد القسوة بلونك القاتم؟ يا حبذا أيها الجلاد لو كنت أكثر لطفًا على أيد لا تملك أجنحة للتحليق، ولكنها تملك قلبًا نقيًا طاهرًا يمكنه إبهار العالم بحبه ووجهه النوراني، على الرغم من سخافة هذا العالم المليء بالحقد..
يقول بونفوا: "الحقيقيون لا يحتملهم أحد!"، لذلك يتساءل المرء كيف لشخص طيب يلقى القبض عليه بتهمة لم يسبق له أن سمع بها، بمجرد قطعة ورقية بيضاء كتبت بيد مجهول، فتتم تهيئة وجهه بكيس أسود لا يحتوي ثقوبًا، كي لا يستطيع رؤية طريق موته؟
من كتب هذا التقرير:
في عام 2013، كان شاحب اللون مشمئزًا من مشاهد القتل والدمار حوله، ويشعر أن مصيبة ما ستنزل على رأسه المحشو بأفكار سوداوية، على الرغم من إشراقة الأمل التي كانت تعلو شمس ذلك المساء، مع المطر الذي يبلل وجهه الرمادي بعد سماع خبر استشهاد عمه. هكذا بدأ يوقن أن الأيدي العابثة تصفعه على وجهه لتبدأ الكدمات بالظهور على وجهه الذي لا يستطيع رؤيته! كان يحاول استرجاع جزءًا من ذاكرته بعين نصف مفتوحة على الألم، وعقل مشوش وبعض من بقايا رقبته المعلقة بجزء لا ينتمي إلى السقف، بل إلى روحه المفقودة. كانت تدور في مخيلته أسئلة كثيرة لا يستطيع الإجابة عليها: لماذا أنا هنا؟ من كتب هذا التقرير؟ لم يسبق أن تشاجرت مع أحد من قبل! الأسئلة تحاصره من كل جانب، ولا إجابة سوى ألم لم يعهده من قبل .. تارة يحاول البكاء وأخرى الضحك. عندما يبدأ المحقق بالأسئلة يصمت.. يبدأ ينهال عليه ضربا ليكسر عظامه. لم يكن ينبس بحرف ولا يتأثر بتكسير عظامه. بقدر ما كان صفير المحقق وهو يحتسي الشاي يئن في رأسه، وكأنما طائرة هليكوبتر وقعت على رأسه فهشمته:" ولك أبدك تحكي.. الله يقطع عمرك.. يخرب بيتكن من وين الله بلانا فيكن يا ولاد الـ"… ..
الدولة المتوحشة:
كان رائد شخصية مرموقة في عمله متفتح الذهن، ويعرف كيف يدافع عن وطنه، كما يدافع عن شرفه تماما . لم يكن يعني له الشرف الحفاظ على العرض والأرض فقط، بل الإخلاص في الحفاظ على الكلمة و العمل. كان حقيقيا فعلا، وواحدا من الشباب المتحمس لربيعه العربي، للوقوف ضد الاستبداد والنهوض بوطن يليق بكرامة الإنسان. لم يستطع أن يدرك، أنه من النخبة في ظل حالات التعذيب التي يصادفها صباح مساء! لكن كان مدركا تماما أنه ولد في دولة لا ينتمي إلى أي جذر من جذورها! على حد تعبير ميشيل سورا في كتابه: سوريا الدولة المتوحشة.
أكثر ما يلح على ذاكرته الصماء في حينه هو أنه يمتلك فاها كبيرا جعله عرضة للتورط بكثير من المشاكل. أهم تهمة وجهت له أنه إخونجي؟! كان يحدث نفسه بغباء أثناء حالات التعذيب .. بذاكرة نصف مفتوحة على التهمة، ونصف مفتوحة على الهدف. قائلا: أنا إخونجي؟ علما أنها ليست تهمة! لكن النظام الأسدي المجرم، جعل منها تهمة، هو يستطيع تشويه الحقائق وقلبها بالطريقة التي يرغب ليحقق أهدافه. وأنا المسيحي الأرثوذكسي؟! وجزء مما تبقى من ذاكرته مفتوحة على هويته وانتمائه. استدرك! أنا مسلم، لا أنا علوي، سني، درزي، اسماعيلي.. أنا سوري، ولست طائفي، أنا وطني ووطني بامتياز.
ثورة المنفردة:
يتابع قائلا: أنا برئ والله برئ، لم يسبق أن أذيت نملة، ولا قتلت صرصارا، ولا هدمت بيتا لعنكبوت، بدليل أن هؤلاء، كانوا يشاركوني أفراحي وأحزاني في هذه المنفردة. صاروا جزءا مهما من حياتي وكأنهم أهلي. لقد صرت قادر وأنا هنا على إشعال ثورة ليحيا شعبي، وكانت ثورة المنفردة أقوى من صوت الحناجر التي تهددهم بالحرية خارج نطاق المنفردة. كان رائد يوثق يومياته داخل السجن، ونشأت بينه وبين يوميات السجن علاقة صداقة! إلى أن أتى رمضان في سنتي التاسعة في السجن، كان أشبه بحلم. النظام يوثق يومياته من خلال الدراما! هل هذا ترف؟ أم أنه يريد حقا أن يعترف بمسؤوليته تجاه ما اقترفه ضد هؤلاء الحقيقيون جدا! هل وصل حقا إلى حد البؤس؟.. إنه منته ..
أراد تلوين شرايينه الزرقاء بحمرة دم نقية .. تقية رمضانية؟ بلون القسم الإيماني تفعل عكس ما تؤمن وتتقي، بل عكس ما راهنت عليه من قسم، تلونت بحقد ووضاعة وكراهية! صارت الضحية تشفق على سذاجتها التي تدعي البراءة؟ وما تزال تعبد سيدها الصنم، على الرغم من هذه الشكوك وهذه الريبة العميقة التي تحيط بأسئلته، كانت ذاكرته عصية تماما عن فكرة أنه من الممكن أن يرى النور بعد تسعة أعوام من رفاهية السجن المطلقة الملونة بموسيقا يعزفها الجلاد وهو يحتسي الشاي، وهي ترقب بوطه العسكري برفق ليدوس وجهها ويحطم عظامها، فلا تستند إلى حائط أو أرض أو روحه المفقودة المعلقة بحديدة لا تربطها بالسقف ... بقدر ما تربطها بحياة ليست عاجزة عن رؤية مصيرها المحتوم والمنهك نحو موت مؤجل. كان يزداد عنفوانا وشموخا، ويقول لنفسه بردا وسلاما.. كانت روحه تولد من جديد مع كل فصل من فصول التعذيب، وكأنها صممت على الاعتراف والانتظار لربيع عربي جميل الفصول متعدد اللهجات، متحد اللغة والأهداف، همه واحد ليس سوريا ولا جزائريا، ولا ليبيا، أو عراقيا، بل عربيا.. كانت الآمال تدور في رأسه النظيف الذي لم يتعقم إلا بالحقيقة والأمل والتفاؤل، بأن القادم أجمل.. وصاح صاحب السجن قائلا: :"رائد شملك العفو.. جهز حالك لتطلع بلاعك إن شاء الله ... لك رح نرتاح منك ومن أشكالك .. يقطع عمركن إن شاء الله".
وجاء يوم العفو:
شعر رائد للحظة أنه فقد هويته وتوقف رأسه عن الدوار والتفكير.. كان يلح على ذاكرته سؤال واحد: هل نزل وحي على هذا النظام، مما جعلهم يصدرون هذا العفو؟ كان رائد قد سمع بمجزرة حي التضامن، وأجاب فجأة قائلا: على ما يبدو يريدون تلميع صورتهم أمام الرأي العام العالمي.
لقد صدر العفو! كان رائد ينظر بعين الريبة إلى ما حوله.. إلى النور المنبثق من حياته الخارجية التي لم تنعم بهذا النور المريب منذ تسعة أعوام. لقد كاد أن يفقد ذاكرته، بل هويته.. شعر بالضياع، عندما سأل أخاه الوحيد: أين أهلي وأصحابي؟ وأين حينا؟ زوجتي وأولادي؟ سكت أخوه .. وجد رائد نفسه أمام ذاكرة جديدة عمرها فقط خمس دقائق، وهي تحكي ألما مختلفا.. تمنى لو واجه شبيها له في رفاهية السجن المطلقة. المؤلم أن العفو قد صدر .. المؤلم أن هذه الحياة التي كان يعتبرها جحيما كانت حقا رفاهية خلف هذه القضبان الجميلة، والمؤلم أن كل شئ انتهى بخمس دقائق. لم يعد قادرا على الحلم الجميل خلف هذه القضبان، ولم يعد يحلم بعفو ولا بإحسان ولا عطف مثير للشفقة. كان يحاول البحث في عيون أخيه الذابلة التي تحاول إخباره بالكثير الكثير ولا تستطيع. كان يحاول رؤية الجانب الجميل منها لا المريب، لعله ينتشله من قلة الحيلة والعجز والضياع المريب..
كانت ذاكرته تصرخ: نحن لا نحتاج إلى عدالة تعيد الدماء الطاهرة التي سالت، وتبث الروح في قلوب الأمهات الثكلى على أرواح أبنائهن الشهداء البررة. أي عفو هذا يعيد الحزن للذاكرة مع كل قطرة دم سالت؟ مع كل تجديد درامي لثلاثية كسر عظم برئ لا تزال شرايينه تحتضر لتؤكد مقولة بونفوا: "الحقيقيون لا يحتملهم أحد"، ولا يشملهم عفو رئاسي، بل في أرواحهم تنمو براعم حرية لم يحن قطافها بعد، بل أنتجت آسا يوضع على قبور موتى في صبيحة عيد.. تتعالى ضحكتها وتنسى أنها أمام جلادها، حيث كان فاسيلي بيلوف يهمس في أذنه:"لا تخف، فالظالم يشعر بالخوف عندما يقف أمام ضحيته".
وسوم: العدد 1030