في تربية النشء

يقف مَن يقوم بمهنة التعليم في مدارس البنين أو البنات ــ في المرحلة الابتدائية والمتوسطة ــ بشكل خاص على النشء الذين أعمارهم تبدأ من ست أو سبع سنوات ولغاية السنة الخامسة عشرة ، وهي مرحلة هامة من عمر الناشئين ، فهم وهُنَّ على أعتاب مرحلة المراهقة ، وبداية مرحلة ربما هي أهم مما قبلها في بعض الأمور . ومهما فتشنا عن القيم التي نصنع من خلالها طرق التدريس ، ومنهج المعاملة الراقية التي تؤكد على ملء فطرة هؤلاء فلن نجد أجلَّ مما جاء في ديننا وفي قيمنا الاجتماعية . وهنا الدور الريادي الذي تقوم به التوعية الإسلامية في المراحل التعليمية في تربية النشء وتقويم أخلاقهم ، والسمو بسيرتهم ، وتنمية مهاراتهم ، وإنارة آفاق مساعيهم الأثيرة ، وشحن هممهم ، وإغناء مواهبهم بما يؤمله منهم أهلوهم ومجتمعهم ، ليؤكد دور هذا المحضن الكريم للتربية الإسلامية الفاضلة التي تُشعر الفتى بأهمية ماوهبه الله من طاقات وقدرات عقلية لاحدود لآفاقها ،كما أنها تزرع الثقة في نفوسهم ، وتدفعهم إلى خلق بيئة صالحة نظيفة ، تُزرع فيها بذورُ القيم لمستقبل واعد بمشيئة الله تبارك وتعالى ، من حب للعمل الجاد المثمر والابتكار واستغلال الأوقات فيما يرضي الله تبارك وتعالى ، وبما يعود على هذات النشء وعلى أسرته ومجتمعه وأمته بالخير من خلال مايسمونه بالمواطنة الصالحة .

فبيئة التوعية الإسلامية المدرسية هي مساحة تسابق في تنافس على حسن الأخلاق ، وصدق الأداء ، والأخذ بالأسوة الحسنة ، وإذكاء روح الإبداع الكامن في الصدور ، وهي بيئة يرضاها إليها أولياء أمور الطلاب ويطمئنون إلى معطياتها ، لأنهم يحرصون على صيانة نشأة أبنائهم على مكارم الأخلاق ، والبعد عن المفاسد ومسبباتها ، ونيل ما أعدَّ الله للفتى الذي يلتحق بموكب السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم القيامة كما ورد في حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم . فصدقُ القيام بالواجب ماهو إلا صدى لتحمل المسؤولية الملقاة على عاتق الإنسان وهو يزاول حياته العملية ، وإنَّ إتقان العمل صدى لشعور الإنسان بأهمية تأدية الأمانة على أحسن وجهها ، ومن هنا ندخل إلى صياغة مستقبل هذا النشء ، من خلال تعليمه وتدريبه وغرس معاني المحافظة على أوقات العمل مهما كان ذاك العمل ،ليكون ماينجزه صدى لنبلِ الناشئ، وصحة مقاصده واهتماماته . فلا مجال عند الإنسان السَّويِّ ــ وهذه نتيجة لهذه التربية ــ لإعطاء أهوائه ونزواته أيَّ فرصةٍ يمكن أن يتقاعس فيها عن أداء واجبه وإتقان عمله ، أو يهمل الدقة في الإنتاج وإنجاز المهمات ، أو يتملَّص من قيد الوقت ، فلا يبالي إذا ماترك موقع عمله مستخفا بالعقد الذي وقَّع عليه بيده ، وما يستلزمه من الانتظام والالتزام والإتقان . هذا للناشئ وهو بالتالي سيكون للإنسان ... كلِّ إنسان ، فما هو وجه هذا الأمر عند الإنسان المسلم الذي يقرأ مافي كتاب الله تبارك وتعالى من آيات بيِّنات في الحفاظ على العقود والعهود وإتقان الأعمال ومحاسبة النفس . ويقرأ أيضا مافي سُنَّة النبيِّ صلى الله عليه وسلم من الأحاديث الصحيحة الصَّريحة في صفات المؤمن الذي إذا وعد وفى ، وإذا عاهد لم يغدر ، وإذا عمل أتقن وأجاد ... وهو في كل ذلك يرجو الثواب والعاقبة الحسنة من لدن ربِّه سبحانه وتعالى في حركاته وسكناته وفي دنياه وآخرته .

إنَّ العمل في دائرة حكومية ، أو في مؤسسة أهلية ، أو في أيِّ جهة يُكتب فيها عقدٌ أو يكون فيها توظيف على راتب محدد ووقت محدد ... يكون العامل هنا مهما كانت مكانته ومرتبته مسؤولا أمام الله أولا ، ثم أمام صاحب العمل ، وهذا عقد إداري يؤكد الحقوق والواجبات إذِ القيامُ بها يرفع صاحبها إلى درجة ( القوي الأمين ) . والقوة والأمانة جاءتا في شريعتنا الإسلامية الغراء لتجعل العاملين في المجتمع الإسلامي نبراسا في الصِّدق والأداء المثمر ، ومثالا يُحتذى به لطالبي الأمانة على كل المستويات . وهذا الوجه المشرق في أداء الحقوق والقيام بالواجبات يعمل على تشجيع الآخرين ، ويحيي في ضمائرهم نور مراقبة الله سبحانه ، فربما يندفعون للعمل بقوة وأمانة ونشاط وإخلاص واجتهاد ، ويجعلهم يحاسبون أنفسَهم على التقصير ، قبل أن تحاسبهم الجهة التي يعملون فيها . فالناشئ يعيش ويتقدم في العمر ، وخطاه لاتبرح هذه الظلال الآمنة من القيم والآداب والمشاعر الفياضة بحب الخير ، فإذا مااشتد عود الناشئ ، ونزل إلى ميادين المشاركات المجتمعية فإنه بلا ريب يتصف بالقوة في أدائه ، ويعمل بكلِّ طاقته وحيويته ، والقوة في العمل هي قوة في بناء الحياة الفاضلة المنتجة ، وإذا مارافقت القوةَ الأمانةُ فإن المجتمع يشعر بالطمأنينة التي تحفها الثمرات اليانعات ، والتي كانت نتيجة للوفاء بالعقد والعهد وحفظ الأمانة والذِّمة والثقة بالنفس . وإننا لنجدُ هذا الباب الراقي السَّامي في كتاب الله سبحانه وتعالى ، تترجمه قصة موسى عليه السلام مع ابنة والد الفتاتين إذ قالت إحداهما لأبيها : ( يا أبت استأجرْه ، إن خير من استأجرت القوي الأمين ) . وهذا باب من أبواب الأمانة التي ناءت السماوات والأرض والجبال بحملها ، وفي الحديث الذي يرويه أنس بن مالك رضي الله عنه قال : ماخطبنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلا قال : ( لاإيمان لمن لا أمانة له ، ولا دين لمن لاعهد له ) رواه أبو يعلى .

وممَّا لاريب فيه فإن الأمانة تمتد أحكامها على الدماء والأموال والوظائف ، وعلى كل مايزاوله الإنسان من أعمال ... حتى تصل إلى الاستشارة يقدمها المسلم لغيره من الناس و ( المستشارُ مؤتمنٌ ) كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . ومتى ماكانت الأمانة خُلُقًا متأصلا في قلب المسلم ، وفي معاملاته فإن الناس يحبونه ويقدرونه ويثقون به . ويكفى أهل الصدق والأمانة في حياتهم شرفا ومكانة أنَّ رائدهم نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم الذي أكرمه الله بهاتين الصفتين حتى قبل نبوته ، فكان يُعرف عند القوم ( بالصَّادق الأمين ) . هذه ومضات لمسنا حاجة النشء إليها ونحن نقوم بتدريسهم ،وكأننا ننظر إلى مستقبلهم ونأمل أن يكون مشرقا آمنا في بيئة صالحة استفادت من عوامل تربية النشء .

إضاءة :

  • قال تعالى: ( فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) 30/ الروم .
  • قال صلى الله عليه وسلم: ( مُروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين واضربوهم عليها وهم أبناء عشر وفرّقوا بينهم في المضاجع ) سنن أبي داود.

وسوم: العدد 1036