الحذار من العدو المهزوم

معركة مخيم جنين في التاسع عشر من حزيران/ يونيو 2023 دخلت التاريخ الفلسطيني، وذلك باعتبارها نقلة نوعية في المواجهة العسكرية مع جيش الاحتلال الصهيوني، ضمن المرحلة التي حددها بروز السلاح علنا في مخيم جنين، وفي نابلس (عرين الأسود)، ثم تتابع ظهور كتائب وسرايا كامنة في مختلف مدن الضفة الغربية وقراها ومخيماتها.

إن مرحلة ظهور السلاح العلني، بداية من خلال كتيبة مخيم جنين ثم عرين الأسود في نابلس، ثم انتشار الظاهرة بأشكال متعددة، أدخلت الصراع مع الكيان الصهيوني، مرحلة أعلى من مرحلة العمليات الفردية المدهشة. وقد ألهبت الخيال، بما أرسته من قواعد اشتباك متقدمة، ولكنها سرعان ما مهدت لمرحلة ظهور السلاح العلني التي أرست بدورها قواعد اشتباك أعلى، الأمر الذي جعل الاحتلال عاجزا ومرشحا للاندحار، أو في الأدق، جعل الاحتلال يقف على أرض عدوّة، لا يستطيع دخولها إلّا خلسة. وتكفي المقارنة بوضعه السابق، عندما كان يصل إلى أية نقطة، بمجرد الطلب من قوات الأمن الفلسطينية إفساح الطريق له، حتى ينفذ مهمة اعتقال أو اغتيال، ويعود "سالما غانما" عدا في حالات الاشتباك، كالتي استشهد فيها القائد باسل الأعرج، وغيره من الشهداء.

كان لا بد والحالة هذه، في مرحلة ظهور السلاح العلني في الضفة الغربية، مع استمرار العمليات الفردية (وأحيانا ثنائية أو ثلاثية)، من أن يقرر العدو القيام باجتياح يعيد له بعض هيبته المفقودة، أو المتدهورة، ومن ثم كانت معركة مخيم جنين في التاسع عشر من حزيران/ يونيو 2023.

فكانت معركة مواقع مواجهة تختلف عن عمليات التسلل، كما حدث من قبل في مخيم جنين ونابلس، إنها عملية اقتحام معززة بالآليات المصفحة، وطائرات الأباتشي، وكان هدفها القضاء على كتيبة جنين، وعلى الذين حملوا السلاح معها من حماس وكتائب شهداء الأقصى، فضلا عمن تطوعوا بمبادرات فردية، بالعشرات من الشباب الذين أخذوا ينخرطون في المقاومة؛ مع كل استشهاد ومواجهة تلت حرب سيف القدس، وبطولات الدفاع عن المسجد الأقصى في القدس. وقد أصبح الشعب شريكا في المقاومة، يعوّضها عن كل شهيد بعشرات من المقاومين والأمّهات والآباء.

الجميع تابع معركة اقتحام مخيم جنين في ذلك اليوم المشهود، وقد فوجئ العدو بإعداد دفاعي، مفكر به جيدا، ووجد نفسه بآلياته المصفحة يُستدرج إلى كمين، مما حوّل الاقتحام الهجومي إلى حالة دفاعية؛ هدفها الإفلات من الكمين، ونقل الآليات المعطوبة، والجرحى والقتلى. وقد دامت المعركة للخروج من الكمين الذكي المُحكم إلى أكثر من ست ساعات، وبعد استخدام ست طائرات مروحية من طراز أباتشي، وقد أصيبت إحداها وهبطت اضطراريا، كما أعلن أن ثلاث طائرات أف-16 شاركت في القصف.

وبهذا انتهت معركة جنين، بنصر مؤزّر للمقاومة المسلحة، بالرغم مما قُدّم من خمسة شهداء وعشرات الجرحى. ولكن مع دفع ثمن باهظ من خسائر بشرية، تعمّد العدو إخفاء عدد القتلى والجرحى، طبعا هذا يدخل ضمن التفاصيل لمعركة منتصرة، نقلت المقاومة المسلحة إلى مرحلة أعلى بالضرورة.

من هنا، فإن العدو مع هذا الفشل، سوف يعمد لتعويضه بتصعيد جديد، لمستوى المعركة/ المعارك القادمة ضد مخيم جنين ونابلس والضفة كلها، والقدس، وصولا إلى ما لا مفرّ منه من حرب ضد قاعدة المقاومة الجبارة في قطاع غزة.

وإنه لمن المهم التوقف عند استخدام هزيمة العدو، أو تحقيق نصر مؤزّر ضدّه. لا يقصد المحتوى العسكري التقليدي، بمعنى فرض الاستسلام عليه أو تجريده من سلاحه، وهو ما سيحدث مستقبلا، وإنما يكفي في ظل احتلال واختلال في ميزان القوى العسكري، أن يسمّى هزيمة أو تحقيق نصر مؤزّر، حين يفشل بتحقيق هدفه العسكري، بسحق المقاومة واستعادة السيطرة العسكرية، ومن ثم تثبيت قواعد اشتباك جديدة في غير مصلحته، وهو ما حدث في عدة حروب خاضها ضد المقاومة في قطاع غزة، حتى وصلت المقاومة اليوم إلى ما وصلت إليه الآن.

 ت قواعد اشتباك جديدة في غير مصلحته.

بالتأكيد تضاعفت ورطة العدو العسكرية واهتز احتلاله، بعد الهزيمة في معركة مخيم جنين التي كادت الضفة الغربية كلها وقطاع غزة أن يتدخلا فيها، لو طالت واحتدمت إلى مستوى لا يمكن السكوت عليه، بل وبعد ما ستتركه هذه النتيجة من آثار سلبية على معنويات قياداته ومستوطنيه، وما ستتركه أيضا من آثار إيجابية في معنويات الشعب الفلسطيني، تكريسا لاستراتيجية المقاومة المسلحة، وتعظيما لثقة الشباب المقاتلين بقدراتهم، وما يمتلكون من إبداعات وقدرات في قضايا الدفاع والهجوم.

إن الكمين الذي أعدّ بإحكام وقد أجبر العدو، لاحقا، على الاعتراف بالمهارة التي كانت وراء إدارة المعركة، سوف يعزز من القدرات الاشتباكية لدى شباب المقاومة من جهة، كما سوف يخفف من الملاحظات النقدية التي وجهت لهم، ولو كان وراء أكثرها نيات حسنة من جهة أخرى. وهنا يمكن أن نتذكر النقد الذي وُجه لمجرد ظهور السلاح، واتهامهم بالتباهي والاستعراضية، وبعدم الحرص على العمل السري، وعلى الاحتياط من الانكشاف للعدو والتعرض للاغتيال. وقد وصل بالبعض إلى القول بأن العودة إلى العمل السري المطارد أفضل من الحالة الجديدة، وقد نسوا نقاط الضعف والسلبيات في مرحلة العمل السري، حيث زمام المبادرة شبه مطلقة بيد جيش العدو والأجهزة الأمنية، علماً أن العمل السري استمر متكاملا مع المرحلة الجديدة.

طبعا الذي يحسم الجدال هنا، كما هو الحال في كل جدال حول أشكال النضال، إنما هي النتائج العملية. فقد أثبتت التجربة أن الخروج بالسلاح علنا في مخيم جنين، وفي نابلس، كان مبادرة من قبل الشباب المقاوم، وذلك للانتقال إلى مرحلة أعلى في قواعد الاشتباك، وهو ما أكدت صحته حالة المقاومة في القدس والضفة الغربية، كما أكدت صحته معركة مخيم جنين الأخيرة.

يجب أن يسجل هنا بأن المقاومة في مخيم جنين، ورثت تقليدها السابق في الحرب التي خيضت في عام 2002، وقد تضافرت في المواجهة حركة الجهاد وحماس وكتائب الأقصى. فالوحدة القتالية في ميدان المعركة، كما تجلت في معركة مخيم جنين، شكلت عاملا مهما في الانتصار، كما شكلت نموذجا بأن أعظم الوحدات القتالية، أو الجماهيرية، في الساحة الفلسطينية، كانت تحدث في أتون المعركة ضد العدو .

من يراقب الساعات الست التي دامت فيها معركة مخيم جنين، في التاسع عشر من الشهر الجاري، يدرك أهمية الالتفاف حول المقاومة. وذلك كما فعلت العيون والآذان والقلوب والمشاعر والمواقف، على مستوى الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج، كما على المستويين العربي والإسلامي، ومستوى أحرار العالم.

إذا كان التقدير السديد للموقف والوضع، يقول إن ما حدث في هذه المعركة سيتكرر، وبمستوى أعلى وأشدّ، فإن الموقف يتطلب أن يستعد الجميع لمواجهته، ويضع الحبّ منذ الآن في طاحونة الاستعداد للمواجهات القادمة. وهذا لن يتحقق إلّا إذا عمل كل طرف، ليشارك من موقعه في المواجهة، ليس في القلوب والمشاعر فحسب، وإنما باتخاذ خطوات عملية يكون قد أعدّ لها، للإسهام في تحقيق الانتصارات القادمة.

إن العدو الصهيوني لا يستطيع أن يبتلع نتائج معركة مخيم جنين، كما لم يبتلع أن يبقى الوضع السابق على حاله، فشنّ معركة جنين، وهذا ينطبق على كل مواقع المقاومة. وأضف إلى ذلك استراتيجيته، وسعيه الحثيث لاقتسام باحة المسجد الأقصى، واقتسام الصلاة فيه.

فالسمة المقاومة ستكون سمة مواجهات مصيرية يجب أن ننتصر فيها، وشرط ذلك أن نستعد لها، وإلّا لا ساعة مندم؛ وكيف يجوز المندم، وموازين القوى بعمومها في مصلحة المقاومة!

وسوم: العدد 1038