تمرد فاغنر: متى ندرك خطورة الميليشيات؟
«سمّن كلبك يأكلك»، «انقلب السحر على الساحر»، «الحاوي لا ينجو من الحيّات»، ربما يضيف غيري كثيرا من شاكلة هذه الأمثال، للتعليق على التمرد العسكري الذي قامت به مجموعة فاغنر ضد القيادة الروسية، بعد إعلان زعيمها يفغيني بريغوجين، السيطرة على المنشآت العسكرية في مقاطعة روستوف جنوبي البلاد، وتحركت قواته صوب موسكو، بعد سجالات واتهامات متبادلة مع الرئيس بوتين، ما اعتبره الكرملين انقلابا مسلحا للإطاحة بالنظام.
لدى كتابة هذه السطور، تداولت وسائل الإعلام العالمية أنباء إعلان زعيم فاغنر، أنه أمر مقاتليه بالعودة إلى معسكراتهم حقنا للدماء، بعد أن كانوا على بعد مئتي كيلومتر من موسكو، عقب محادثات أجراها مع الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، وافق خلالها بريغوجين على وقف زحف قواته صوب العاصمة، ونزع فتيل التصعيد، مع توفر ضمانات أمنية لعناصر المجموعة، ما جعل الرئيس الروسي بوتين يوجه الشكر إلى رئيس بيلاروسيا. مهما يكن، ومهما كانت مآلات الحدث، فإنه لا مناص من القول بأن هذا التمرد قد زلزل عرش بوتين، وضرب هيبة الدولة في مقتل، ولا شك في أنه ستكون له تداعياته على حرب أوكرانيا.
فاغنر هي اليد الخفية للحكومة الروسية، وتنوب عنها في القيام بالأعمال القذرة، من دون الربط بينهما بشكل رسمي، ظهرت لأول مرة خلال ضم روسيا لشبه جزيرة القرم في 2014، وصارت تنوب عن روسيا في أعمالها بعدة دول، مثل سوريا وليبيا وافريقيا الوسطى ومالي وموزمبيق والسودان، وهي شركة عسكرية خاصة سيئة السمعة، متورطة في انتهاكات بشعة كالقتل وتقطيع الرؤوس والاغتصاب والتعذيب وسرقة الموارد. ويكفي أن نعلم أن فاغنر وجدت منذ 2015 في سوريا بمهمة كلفت بها من الإدارة الروسية، وهي حماية موارد الطاقة لنظام بشار، مقابل حصة تأخذها المجموعة من الموارد الطبيعية، وذكرت «وول ستريت جورنال» أن فاغنر حصلت على ربع إنتاج كل الحقول النفطية التي استعادتها لصالح بشار. ويرتبط وجودها دائما في البلاد التي تعمل فيها، بالمناطق الغنية بالنفط والذهب والثروات المعدنية، فقد استفادت من مناجم الذهب في افريقيا الوسطى، ويتمركزون في ليبيا – التي يتدخلون على أرضها لصالح حفتر- عند حقول النفط، كما تمتلك امتيازات لتعدين الذهب في السودان، وتدعم حاليا قوات الدعم السريع، التي تسيطر على مناطق الذهب في السودان. ثم جاءت الحرب على أوكرانيا، لتسلط الأضواء أكثر من أي وقت مضى، على تلك المجموعة، التي لها دور بارز في هذه الحرب، وعمليات عسكرية ناجحة، ضخمت من وضع المجموعة، ودخل قائدها مع جنرالات الجيش في صراع نفوذ، واتهم الجيش الروسي بتجاهل مده بالذخيرة الكافية، وانتقد التكتيكات الحربية للجيش. توازي هذه المجموعة في المعسكر الغربي، مؤسسة بلاك ووتر الأمريكية التي برز اسمها مع الاحتلال الأمريكي للعراق 2003، وتأسست 1997 على يد ضابط من المارينز، وتعتمد على مرتزقة من المتقاعدين والقوات الخاصة من مختلف أنحاء العالم تحت موافقة الإدارة الأمريكية، وبسبب فضائحها في العراق غيرت اسمها أكثر من مرة، ولم تزل إلى اليوم لها نشاط في اليمن.
اعتماد الدول على هذه الميلشيات التي تقوم بالأعمال القذرة وأبشع الانتهاكات، يكشف الجانب الوحشي لتلك الدول التي تترنم بالقيم الإنسانية وحقوق الإنسان، فهي تغطي هذا الوجه بقناع شفاف فاضح، لكن كل ما يهمها هو الموقف الرسمي وعدم الخضوع للمساءلة الدولية، حتى إن علم الجميع بها. هذه المجموعات هي خطر على الدول التي ترعاها كذلك، وهذا التمرد الذي قامت به مجموعة فاغنر أظهرُ دليل على ذلك، فهذه المجموعات لا ولاء لها للوطن والدولة، إنما هي تسعى وراء المال والنفوذ، هما محركها الأول، فعناصرها ليسوا من بلد واحد، وبينهم مجرمون وقتلة.
الوضع في الوطن العربي ليس أفضل حالا، إذ تجد ميليشيات المرتزقة لها موضع قوي في بؤر الصراع والمناطق المشتعلة. قوات الدعم السريع في السودان، تمثل إحدى ميليشيات المرتزقة في المنطقة، إذ بدأت كقوات شبه نظامية أسستها مخابرات البشير، وأصبحت قانونيا تابعة له، ثم انقلبت عليه في ثورة ديسمبر 2018، وانحازت إلى الجماهير، فتحولت إلى قوة عسكرية خارج نظام الجيش بقيادة حميدتي، الذي يرفض دمج قواته في الجيش السوداني وفق الجدول الزمني الذي طرحه الجيش. قوات الدعم السريع تضم بينها جنسيات أخرى إضافة إلى الجنسيات السودانية، فهي تضم مقاتلين من تشاد ومالي والنيجر، لذلك أظهرت هذه القوات عدم ولائها للسودان، ومن ذلك الانتهاكات البشعة ضد المدنيين، وقد حكى لي بعض الفارين من السودان من العاملين في منظمة الهلال الأحمر، أن أحد الموظفين تعرضت نساؤه للاغتصاب أمام عينيه من قبل قوات الدعم، ما جعله يقدم على ذبح نفسه. وليست الميلشيات غير النظامية في الوطن العربي قائمة على عنصر المال فحسب، بل منها ما قام على أساس أيديولوجي، كما هو الحال في الحشد الشعبي في العراق، الذي تأسس وفقا لفتوى الجهاد الكفائي، التي أطلقها المرجع الشيعي الأعلى في العراق علي السيستاني عام 2014، لمحاربة تنظيم الدولة، بعد ثلاثة أشهر من إعلان رئيس الوزراء السابق نوري المالكي تشكيل جيش رديف للجيش النظامي لمواجهة الأخطار التي تهدد العراق. نال الحشد وضعا قانونيا يجعله مرتبطا بالقائد الأعلى للقوات المسلحة، وعلى الرغم من قيامه على منظومة عقائدية شيعية، إلا أنه يزج نفسه في الحياة السياسية بشكل صارخ، إذ انخرطت عناصره تحت رايات الأحزاب السياسية التي شكلت منها أجنحة عسكرية، وترتبط بمرجعياتها الدينية لا الدولة، ولها ارتباط وثيق بإيران، ولا تلتزم بالأوامر التي تصدر إليها من جهات رسمية، كما أن لها ممارسات طائفية داخل وخارج العراق، وهي أحد الأعمدة الرئيسية التي يرتكز عليها بشار الأسد في صراعه على الأراضي السورية مع المعارضة، إذ تتدخل هذه الفصائل بموجب الولاء للولي الفقيه في إيران حليف بشار. الاعتماد على مثل هذه الميلشيات من المرتزقة خطر كبير، فهي لا تدين بالولاء للدولة، بل هي تدور حيث المال والنفوذ والأيديولوجيا، فالأنظمة العربية التي تعتمد على المرتزقة أمثال «بلاك شيلد» التي توجد في ليبيا واليمن، ترتكب خطأ فادحا، حيث أن هذه الشركات والميليشيات لا تدين بالولاء للدول التي ترعاها، ومن الممكن أن تتحول إلى سكين يتحول إلى جسد هذه الدول، إضافة إلى أنها تسوّد ملفاتها الحقوقية بالانتهاكات التي تقوم بها عناصرها، فمن يعي هذا الخطر؟ والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
وسوم: العدد 1038