نحن بانتظار الفصل الأخير من ردات تمرد فاغنر!

لا أعتقد أن انتهاء تمرد مجموعة "فاغنر"، بوساطة بيلاروسية، واستعادة المدن الروسية أجواء الهدوء تباعاً، مع انسحاب المتمردين من الشوارع، نهاية الأزمة غير المسبوقة التي تفجرت داخل روسيا ووضعتها على شفير حرب أهلية، بحسب تصريحات المسؤولين الروس أنفسهم، فهناك الكثير من ردات هذا الزلزال الكبير الذي ضرب الأرض من تحت أقدام بوتين وعصابته الحاكمة في موسكو، وأفقدهم التوازن والحيلة والرأي في كيفية التعامل معه، وقد جاء على حين غفلة لم يتوقعها بوتين وأجهزة حكمه.

وإذا كانت الكثير من التفاصيل التي رافقت التمرد وحتى لحظة الإعلان عن الاتفاق على سحب المرتزقة من الشوارع وعدم معاقبتهم لا تزال غامضة، إلا أن تداعيات مرحلة ما بعد التسوية بين الرئيس فلاديمير بوتين ومؤسس "فاغنر" يفغيني بريغوجين لن تتأخر في الظهور، بحسب الكثير من التوقعات، خصوصاً بعد أن كان يوما الجمعة والسبت 23-24/6/2023 الماضيين الأكثر خطورة بالنسبة لبوتين، القابض على السلطة في موسكو منذ عام 2000، إذ تصرّف بشكل غير معهود، مثيراً الشكوك حول احتمال تراخي قبضته في الكرملين.

وإذا كانت الأزمة فجرت الكثير من التساؤلات حول وضع بوتين قبل وبعد التمرد، فإن علامات الاستفهام تطرح أيضاً حول موقع وزير الدفاع سيرغي شويغو والعديد من النخب الروسية في المرحلة المقبلة، في ظل تكهنات بفصول أخرى للأزمة لن تتأخر في الظهور، وهو ما ألمح إليه وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن بقوله: "لم نر بعد الفصل الأخير من قصة تمرد فاغنر على روسيا، والأزمة في روسيا قد تستمر لأسابيع أو أشهر".

ومن شأن ما جرى في الأيام الماضية، وأي تداعيات مرتبطة به بالأيام المقبلة، أن ينعكس على عدد كبير من الملفات، أهمها الحرب الروسية في أوكرانيا من جهة والتي أكد بوتين أنها تتصدر أولوياته، والنفوذ الروسي في العديد من الدول خصوصاً في أفريقيا وسورية، حيث كانت فاغنر تؤدي، طيلة السنوات الماضية، أدوراً عدة، بغطاء من موسكو وخدمة لمصالح بوتين وأهدافه.

كما أن مصير بريغوجين سيبقى الملف الأكثر حساسية في المرحلة المقبلة، خصوصاً أن خروجه إلى بيلاروسيا وإسقاط التهم الجنائية عنه لن يعني انتهاء نفوذه داخل روسيا أو خارجها. ونحو 12 ساعة فصلت بين خطاب بوتين، الذي وصف فيه التمرّد الذي قادته "فاغنر" بـ"الخيانة"، وبين التراجع مساء اليوم نفسه ومنح بريغوجين ضمانات شخصية للذهاب إلى بيلاروسيا.

ولابد أن تُشكّل هذه التحولات نقطة مفصلية في سلوك بوتين وفي كيفية التعامل مع مرحلة ما بعد انتهاء التمرد، إذ أنه من الواضح أنها لن تكون مرحلة مستقرة، خصوصاً أن وساطة الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، جعلت من بريغوجين نداً مساوياً لبوتين في الداخل، وهو أمر يحصل للمرة الأولى مع الرئيس الروسي، المعتاد على الحكم بصورة منفردة.

وكان لافتاً أن بوتين بدا بمظهر الضعيف في الداخل، بدءاً من عدم تنفيذ تعهده بسحق التمرد في المهد، أي حين أعلن بريغوجين مساء الجمعة أنه سيتوجه إلى موسكو، بل على العكس، استيقظ سكان مدينة روستوف الجنوبية، صباح السبت، على سيطرة عناصر "فاغنر" على مدينتهم، وعلى مقر القيادة العسكرية الجنوبية، التي تقود الحرب في أوكرانيا.

وبدت صورة بوتين مغايرة للرجل الذي أمر باقتحام مسرح موسكو في عام 2002، ومدرسة بيسلان في 2004 لحلّ أزمة رهائن فيهما، حيث سقط أكثر من 500 قتيل في الموقعين. وفي حين توقع الروس خصوصاً، أنه سيُقدم على ضرب "فاغنر" ومنع عناصرها من التوجه إلى موسكو، بناء على خطابه صباح السبت 24/6/2023، إلا أنه تصرّف بصورة مغايرة في مساء اليوم عينه، بالعفو عن أفعال "فاغنر"، وترك الباب مفتوحاً لانضمام عناصر منهم إلى وزارة الدفاع الروسية بموجب عقود.

لقد كشف تمرد بريغوجين نقاط ضعف شديدة في الكرملين ووزارة الدفاع، وقد كافح الكرملين لتقديم رد متماسك على التمرد، وأن أحد الأسباب كان على الأرجح تأثير الخسائر الروسية الفادحة في أوكرانيا، وكان من المحتمل أن تصل قوات فاغنر إلى ضواحي موسكو لو اختار بريغوجين ذلك.

لقد كان للزعيم البيلاروسي دوراً مهيناً لبوتين، وربما يكون قد ضمن للوكاشينكو مزايا أخرى، وهو ما يطرح تحديات حول قدرة الرئيس الروسي على الإمساك بمفاصل القرار في البلاد، قبل عام تقريباً على موعد الانتخابات الرئاسية.

وأيضاً تبرز تساؤلات حول سيطرته على الجيش، الذي لم يتحرك فعلياً لضرب قافلة "فاغنر" المتجهة إلى موسكو، وكان لافتاً، في خضمّ التمرد، توقيعه قوانين رفع فيها سن التجنيد حتى عمر الـ70 عاماً، وإشراك السجناء في القتال، وإعفاء الجنود من المحاكمات الجنائية.

ومن شأن التساؤلات المطروحة أن تؤثر على مستقبل روسيا البوتينية، إذ أن سلوك الرئيس تجاه "فاغنر" مؤشر لبروز إرهاصات أخرى، ليس أولها اكتساب أوكرانيا زخماً ميدانياً يتيح لها تسريع وتيرة الهجوم المضاد، الذي بدأته منذ نحو 3 أسابيع. كما قد تعود الأفكار الانفصالية إلى الواجهة في أقاليم شمال القوقاز.

وقد يسمح إظهار بوتين ضعفه، في بدء حراك سياسي في جورجيا لاستعادة إقليمي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، اللذين سيطرت عليهما روسيا في حرب عام 2008. ومن شأن الضعف الداخلي أن يفسح المجال لدول آسيا الوسطى، خصوصاً كازاخستان، في الخروج من العباءة الروسية، كما سيدفع هذا الضعف الدول الحليفة لروسيا، من كوريا الشمالية وبيلاروسيا والصين وإيران وفنزويلا والنظام السوري على وجه التحديد، إلى التفكير في ما إذا كان بوتين قادراً على الصمود في المرحلة المقبلة، أو القيام برد فعل يزيل فيه صورة الضعف في التصرف مع تمرد "فاغنر".

كما يبدو أن مصير وزير الدفاع سيرغي شويغو في بالغ الأهمية، خصوصاً أنه إلى جانب رئيس الأركان فاليري غيراسيموف، كانا عرضة لهجمات بريغوجين، بسبب "خيانتهما" و"بيروقراطيتهما" و"منعهما وصول الذخائر إلى قواته"، كما ردد مراراً على موقعه على منصة "تليغرام". وخلال التمرد غاب شويغو عن الظهور العلني، ولم يدلِ بأي موقف.

وعلى الرغم من الاتفاق، فإن بريغوجين أذلّ بوتين؛ وأظهر أنه لم يعد هناك احتكار للعنف"، ولم نصل إلى الفصل الأخير من قصة تمرد فاغنر على بوتين، والأزمة في روسيا قد تستمر لأسابيع أو أشهر.

وعن تفاصيل الاتفاق الذي يشمل مغادرة بريغوجين باتجاه بيلاروسيا، وعودة عناصر "فاغنر" إلى معسكراتهم، كما جاء في الاتفاق أن بعض مقاتلي "فاغنر"، ممّن رفضوا منذ البداية الانخراط في تمرد بريغوجين، ستتاح أمامهم إمكانية الانضمام لصفوف القوات المسلحة الروسية والتعاقد مع وزارة الدفاع.

أما الذين شاركوا في التمرد فلن يخضعوا لأي ملاحقة قانونية. وأكد وقف أي ملاحقة قضائية بحق مقاتلي المجموعة الذين "لطالما احترمنا أعمالهم البطولية على الجبهة" في إشارة إلى قتالهم في أوكرانيا وجرائمهم في سورية. وأوضح بيسكوف أن بوتين ولوكاشينكو، اتفقا على وساطة مينسك في عملية التسوية، لافتاً إلى أن الوساطة "كانت مبادرة شخصية من رئيس بيلاروسيا، من منطلق تجنب إراقة الدماء والمواجهة الداخلية".

بعد يوم من انسحاب مجموعة "فاغنر" العسكرية الخاصة من مدينة روستوف جنوبي روسيا ووقف زحفها نحو موسكو بموجب اتفاق أنهى تحديا لم يسبق له مثيل، ثارت تساؤلات عن مدى إحكام الرئيس فلاديمير بوتين قبضته على السلطة.

ولم يدل بوتين بأي تصريحات علنية منذ إبرام الاتفاق لتهدئة الأزمة، التي أثارت تساؤلات كبرى إزاء مدى إحكام الرئيس الروسي قبضته على بلد يحكمه بيد من حديد منذ ما يزيد على عقدين.

لم تعد صورة روسيا هي نفسها بعد الثالث والعشرين من الشهر الجاري كما كانت عليه قبله، وهي التي اهتزت بشكل كبير في ظل تورطها بالوحل الأوكراني على مدى أكثر من عام ونيف بعد أن تعهدت بالقضاء على التمرد الأوكراني خلال 72 ساعة، وهي نفس المعزوفة التي عزفتها حين غزت سورية عام 2015 حين تعهدت بالقضاء على الثورة السورية في غضون أربعة أشهر، ولكن حسابات الحقل الروسي لم تتفق مع حسابات البيدر السوري والأوكراني.

صورة روسيا هذه المرة ذكّرت الجميع بأجواء بداية تفكك الاتحاد السوفييتي عام 1990، وهو ما أشار إليه بوتين نفسه في خطابه الذي وصم زعيم مليشيات فاغنر يفجيني بريغوجين ذراعه العسكري الخارجي لسنوات بالخيانة العظمى والتمرد، وهو ما يستبطن حالة الخوف والقلق الروسية من وصول البلاد إلى أجواء شبيهة بأجواء تفك الاتحاد السوفييتي، خصوصاً مع الانهيارات العسكرية الروسية المتعاظمة في أوكرانيا.

أما عن صورة روسيا الداخلية بعد التمرد لم ولن تعد كما كانت عليه من قبل، فقد كانت حالة التمرد هذه بمثابة القشة التي قصمت ظهر الدب الروسي، ومهما قيل عن طبيعة الاتفاق بين بوتين وبريغوجين بوساطة رئيس بيلاروسيا لوكاشينكو فإن شرخ الصورة قد حصل بشكل كبير، وهذا الشرخ حصل في صورة روسيا الداخلية وصورة روسيا الخارجية.

لقد أظهرت عملية التمرد هشاشة الدولة الروسية وجيشها، لاسيما وهو الذي يقاتل على جبهة أوكرانيا، كما يشير بالتالي إلى فشل مؤسسات الدولة في القيام بواجبها، لتأتي مليشيات فاغنر وتقوم بدور الجيش في استعادة باخموت والقتال بديلاً عن هذا الجيش البائس، وقد تمكن بريغوجين صاحب مليشيا مرتزقة مكونة من 25 ألف مقاتل بحسب اعترافه لأول مرة في تسجيله المنشور بعد حالة التمرد، حين يتمكن من السيطرة على مدينة روستوف الروسية التي تعد بوابة عبور الدعم اللوجستي للقوات الروسية باتجاه أوكرانيا، وحين تفشل مؤسسات ثاني أكبر دولة في العالم مع جيشها المهيأ لقتال جيوش عالمية في التصدي لمليشيات مرتزقة بحجم فاغنر، فإن هذا يكشف مدى هشاشة

مليشيا فاغنر المنتشرة من سورية إلى ليبيا فالسودان فأفريقيا الوسطى وتشاد ومالي وأمريكا اللاتينية، إنما هي قوة عسكرية خارجية للجيش الروسي لن تكون بعد اليوم محل ثقة بوتين، وبالتالي فإنها لم تعد تلك القوة الخشنة التي يعول عليها، إذ غدت بعد التمرد خارج الحسبة البوتينية، مما يستتبع تراجع الصورة الروسية، وسياستها الخارجية التي ارتكزت في السنوات الماضية على نهب ثروات مالي وتشاد والسودان وليبيا وسورية.

روسيا اليوم المهمومة على جبهات داخلية وخارجية، أمام استحقاقات كثيرة، والأخطر من هذا كله أن الانقسام الداخلي يتعمق، والقيادة الروسية بحاجة لجهد استثنائي لاستعادة ثقتها وسط جمهورها، فإن استطاعت مليشيات من 25 ألف مقاتل على هزّ هيبة الدولة بهذا الشكل، وهددت بالسيطرة على موسكو، فهذا يعني أننا أمام فشل مؤسساتي، لاسيما وأن الرئيس بوتين الذي اتهم التمرد بالخيانة العظمى عاد خلال ساعات ليبرم اتفاقاً معه علناً، ويوفر له الحماية من الملاحقة.

المصدر

*العربي الجديد-26/6/2023

*العربية نيوز-26/6/2023

*الشرق-27/6/2023

وسوم: العدد 1039