قيس سعيّد في عباب الإغواءات الجوفاءة

الرئيس التونسي قيس سعيد يتخبط بين إغواء ثنائيّ المغانم: 1) المليار يورو، الذي عرضه الاتحاد الأوروبي، لقاء تحويل تونس إلى حائط سدّ ومخفر أمامي/ خلفي في وجه المهاجرين الأفارقة؛ و2) امتطاء موجة شعبوية جديدة عنوانها التمسك باستقلالية تونس، ورفض حراسة حدود الآخرين، والحفاظ على النقاء الديمغرافي لبلد أفريقيّ الجغرافيا وفي الآن ذاته عازف عن «التَأَفْرُق».

ولكن، ماذا لو أنه قطع الحيرة بالجمع بين الإغوائين معاً، والخروج بمزيج قد يُطرب ما تبقى في رصيده من جماهير متنوّعة المقاصد والمظانّ، لا تواصل الالتفاف حوله إلا لأنها تمعن في الانصراف عن سواه؛ أي عن غالبية الأحزاب والمنظمات والنقابات، بما في ذلك الاتحاد العام التونسي للشغل، التي تخبطت بدورها في كثير أو قليل بصدد انقلابه الموصوف في تموز (يوليو) 2021؟

هذا الخيار اتضح عملياً خلال استقبال سعيّد الوفود الأوروبية التي تقاطرت على قصر قرطاج، ثمّ في تلهّفه على أداء دور «النجم» المدلل في مؤتمر روما حول الهجرة، من وجهة أولى؛ مثلما سار أداؤه عند زيارة مدينة صفاقس، من وجهة ثانية، حين عزف الكثير من الأنغام الشعبوية التي تفوح منها روائح عنصرية، ظلت مع ذلك أقرب إلى الجعجعة منها إلى النطق بأية سياسة جلية حول اللجوء واللاجئين.

والحال أنّ السحر، إذا جاز توصيف هكذا أصلاً، لن يستغرق وقتاً طويلاً حتى ينقلب على الساحر، إذا صحّ أنّ سعيّد تحلى بهذه الصفة أساساً؛ لا لأيّ اعتبار آخر يسبق حقائق صلبة في نصّ الصفقة مع الاتحاد الأوروبي، على رأسها كيفية التطبيق الفعلي لحكاية تسهيل إصدار التأشيرات لأبناء تونس الراغبين في السفر إلى أوروبا، وهذا دونه خرط القتاد وهيهات أن يزيل عوائقه المستحكمة أيّ ساحر وأيّ سحر.

ليس خافياً، كذلك، أنّ الحكاية الأخرى التي تخصّ المليار يورو الموعود، دونها خرط قتاد أشدّ تعقيداً، وأكثر انطواء على افتضاح الأكاذيب وانكشاف الضلالات؛ ابتداءً من حقيقة أنّ الاتفاق الرسمي لا ينصّ على المبلغ، وأنّ سُبُل إقراره وتحويله لا تبدأ من وعود أورسولا فوندرلين وحدها، بل يتوجب أن تعبر عوائق المجلس الأوروبي بافتراض أنّ البرلمان الأوروبي يمكن أن يصادق على الصفقة.

وفي الجوهر ثمة رائحة عفنة تفوح من اتفاقات كهذه، سواء عقدها الوفد الأوروبي في تونس أو في روما، لأنها إنما ترتكز في المقام الأول على رشوة الحاكم المحلي كي ينفّذ ــ بالنيابة عن الأوروبيين، وبالأصالة عن نظامه ــ سلسلة مهامّ «براغماتية»، على حدّ توصيف صريح نطق به وزير الخارجية الإيطالي؛ وبالتالي لا أحد يكترث بما يمعن فيه الراشي من أداء انقلابي واستبدادي وتضليلي وتهريجي، في بلده وأمام شعبه. وكي تكون للمصادفات محاسنها، سار الكونغرس الأمريكي في وادٍ بصدد ربط المعونات إلى تونس بملفات الحقوق المدنية والحريات العامة وتهذيب الانقلاب، بينما كان البيت الأبيض يسير في وادٍ آخر لا تتردد فيه سوى أصداء البراغماتية، ذاتها التي سعى إليها الوفد الأوروبي في تونس وروما.

لا طوق نجاة، أغلب الظنّ وحتى إشعار آخر غير قصير المدى، يمكن أن ينجلي عيانياً عن الاتفاق الأوروبي مع سعيّد، ويتكفل بالتالي في الجمع الفعلي بين إغواء حارس الحدود وإغواء استمالة الشارع الشعبوي. ليس لأنّ المليار يورو سوف تبقى أقرب إلى أضغاث أحلام، فحسب؛ بل كذلك لأنّ أيّ ألعاب قد ينتهجها سعيّد للتعمية على مشكلات أبناء تونس العضوية العميقة المستفحلة، سوف تصطدم بصخور امتناع رشوة منتظَرة من صندوق النقد الدولي، ما دامت الإصلاحات البنيوية التي يشترطها الصندوق ممتنعة/ ممنوعة في آن.

وهكذا يواصل سعيّد الإبحار في عباب إغواءات شتى متقاطعة، يحدث أنها جوفاء خرقاء شعبوية، على غرار خطابه… تماماً!

وسوم: العدد 1042