والنصف الفارغ من الكوب !؟

هذه هي الرسالة التي أرسلها صاحبها إلى أحد أصدقائه ذاك الذي يعاني وعائلته قسوة الحياة وضنك العيش وظلمة الأفق الذي ينتظر وجه الصبح

: {اعلم أن الكأس الممتلئة إلى نصفها ، وأنت تتذمر من كونها نصف فارغة ، فاعلم أن غيرك من ملايين البشر يموتون من الجفاف ، ومن التَّصحرو من ضنك العيش وقلة المورد . فلا الكأس التي هي أمامك ، ولا ذلك الماء الذي يرجون أن يكون متدفقا ... فكلها وغيرُها ليست موجودة . فاشرب مافي كأسك من الماء واصمت . وعامل الهموم التي تُثقل كاهلك على أنها تمارين لشدِّ القامة ، ولْتُحيِ مافي أحنائك الظمأى من قيم أخرى ، وعلى رأسها الصبر الجميل . وقفْ منتصبا وأبرز عضلات وعيك وإيمانك بخالقك العليم الخبير ، واعتبر نفسك داخل صالة ألعاب ، ولكنها ليست الألعاب الدنيوية . إنها جولات وصولات لأصحاب الفطرة السليمة ، الذين لاينكرون أن ناموس الكون وما فيه من مخلوقات هي من إبداع أحكم الحاكمين ، وهـو أرحم الراحمين ، وهيهات هيهات لِمَن كان قلبُه فارغا من معاني القلب السليم أن يصل إلى الهدف المنشود بخموله ، أو بضياع خطواته في متاهات غير الطريق الصحيح . وعليك أن تصحو وتعرف لماذا أتيت إلى هذه الأرض !؟ وكُفَّ عن التذمر ، فأنت مازلت حيَّـا رغم كل الصعوبات واللأواء التي تكتنف جوانب حياتك الدنيوية .واعلــم أن قلبك الذي ينبض في الساعة الواحــدة مايقــرب من : ( 4000 ) أربعِ آلاف نبضة ، يؤكد أنك مازلتَ على قيد الحياة فاحمد الله}

***

وصلتْه الرسالة ، فقرأها بمجرد وصولها ، فهو في شِدَّةٍ ، ويريد طوقَ نجاةٍ ولو قشة صغيرة ، فبحر الكرب أمواجه عالية ، وأعاصيرُه أخذت مجراها بلا عوائق ولا موانع ، وتلك هي الدنيا التي أرادها بعض البشر ، ولا أعمم . فما زالتْ لدى بعض الناس قيمٌ عُليا و وعي يمنحهم السير على سواء السبيل والصراط المستقيم . لاينكر أيُّ إنسان حال أكثر الناس اليوم ، حيث التشرد والغربة والمعاناة ، وحيث الأحقاد عند بعض الخلق تزيد الكرب وجعا وقلقا ومرارة ... ولكن هناك ركنان جليلان يخففان وطأة الأذى والشَّر عن الآخرين رغم كثرتهم في أصقاع الدنيا . وهما الصبرُ والصَّلاةُ ، ففي الصَّبر معيَّةُ الله تبارك وتعالى ، وفي الصلاة مناجاته جلَّ وعلا . فما ظنُّ الإنسان بربه إذا أقبل عليه وهـو صابرٌ محتسبٌ ليُناجيه ويسأله الفرج والعطاء . قد يبدو الأمر صعبا على عامة الناس الذين لم ماتلوا قوله تعالى : ( وماخلقتُ الجن والإنس إلا ليعبدون ) ، فالصبر والصلاة من العبادة وأيُّ عباده ، يقول سبحانه : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ). 45/ البقرة، ومن أعانه الله فَلْيبشر بالخير والتوفيق ، وبالنجاة من كل خطب وكرب . فالخيرُ كل الخير في الصَّبر : ( وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ). 126/ النحل،

والحياة الدنيا دار ابتلاء للخلق ، وموئل تمحيص للقلوب ، والناجح في هذا الاختبار له الفضل الكريم عند ربه في الدنيا والآخرة . يقول اللـــــــــه عـزَّ وجلَّ : ( وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ) 22 / الرعد . بل إن إكرام الله للصابرين من أهل الإسلام على مرِّ العصور ليزيدُ بفضله سبحانه : (أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا) 75/ الفرقان ، ويؤكد المولى تبارك وتعالى على فضل الصَّابرين ومكانتهم العالية في العديد من آياته البينات ، وفي الكثير من أحاديث نبيِّه المصطفى صلى الله عليه وسلم . واقرأ قولَه تبارك وتعالى : ( وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا) 12/ الإنسان . وينال هذا الفضل مع الصَّابرين أولئك الذين يتواصون بالصبر في حياتهم ، وخصوصا أيام الشدائد والمحن وتقلبات الزمان . يقول ربُّنا سبحانه : ( ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ* أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ) 18/ البلد . وفي السُّنَّة المطهرة وردت أحاديثُ تبتهج بها النفس ، ويطمئن لها القلب ، ونضع بين يدينا منها قوله صلى الله عليه وسلم : (ما أُعْطِيَ أحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ ) ، وقال عليه الصلاة والسلام : (عَجَبًا لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وليسَ ذاكَ لأَحَدٍ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إنْ أصابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكانَ خَيْرًا له، وإنْ أصابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكانَ خَيْرًا له )

وليس بعد كلام الله عز وجلَّ وأحاديث نبيِّه عليه الصلاة والسلام من عــزاء لأهل الفاقة ، ولأهل المصائب من قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم . ولقد أرسل هذا المقال على هيئة رسالة تذكير ، والحمد لله فقد تقبلها مَن أرسلت إليه قبولا حسنا ، والحمد لله رب العالمين .

*إضاءة ربَّانية :

(والعَصْرِ *إنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ). 1/2/3/ سورة العصر .