محمّد: الرسول والإنسان
احتفت شعوب إسلامية كثيرة في الأيام الأخيرة بذكرى مولد رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام في أجواء غمرتها البهجة والشعور بالانتماء. كما حرّكت لدى المفكرين والعلماء والشعراء أحاسيس الفخر وهم يسترجعون حدثًا غيّر مسار التاريخ وأحدث تحوّلا كبيرا في موازين القوى استمرت آثاره طوال القرون الأربعة عشر السالفة.
الذكرى مناسبة لأمور عديدة: أولها تعميق الشعور بالانتماء للدين الذي جاء به محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة والسلام، ثانيها: استحضار حياته بما يفيد المسلمين من تعميق الإيمان بالإضافة للدروس والعبر. ثالثها: إعادة محمد الى محور الحياة من خلال تعميق التواصل معه ومع القرآن الذي أنزله الله عليه وسيرته وسنته. رابعا: ترسيخ الإحساس بوحدة الأمة في عقيدتها وتوجهاتها ودورها في إعمار الأرض ومد جسور التواصل مع الآخرين. خامسا: إعادة قراءة ثنائية الدين والدولة من خلال السيرة النبوية، ودور محمد في تأطير مفهوم الدولة وما طرحه بشكل خاص في ما يعرف بـ «وثيقة المدينة». وسواء كانت هذه النقاط حاضرة في الأجواء الاحتفالية أم أن الاهتمام بقي محصورا بالطقوس الاحتفالية فإن للمناسبة دورا يستحق التفعليل والمزيد من الاكتشاف. وربما كان محمد في بداية أمره ظاهرة فردية خصوصا عندما كان يقضي وقته متعبّدا في غار حراء بضواحي مكة مبتعدا عن عالم الأصنام والجهل والاستغلال. ولكن بعد إعلان رسالته أصبح مشروعا واسعا يتجاوز في آفاقه الجزيرة العربية ويتصل بالعالم كله. وليس جديدا القول بأن دائرة الإسلام اليوم توسعت حتى تجاوزت القارات المعروفة واخترقت الحدود إلى الجزر الصغيرة المتناثرة في أنحاء المحيطات. فحتى في القطبين الشمالي والجنوبي يتعبّد العمال المسلمون في مساجدهم التي تتصاعد أعدادها وتساهم في لم شملهم في تلك النواحي القاصية. لذلك لا يمكن المرور بذكرى ولادة محمد بن عبد الله بدون التوقف عند الظاهرة الدينية التي تزداد أهميتها ودورها في الحياة العامة بمرور الوقت ولا يمكن حصرها ضمن أطر الزمان والمكان. وليس المقصود من إحياء المناسبة إضفاء تقديس خارج المعقول لهذا النبي الأمي، بل الهدف تعميق التواصل مع صاحب كبرى الرسالات السماوية للبشر.
ليس من المبالغة القول بأن الظاهرة الدينية، عبر العصور، أثبتت قدرتها على البقاء في أصعب الظروف، ولم تستطع الدعوات المناهضة والتوجهات الفكرية المضادة إنهاء دورها وانتشارها في المجتمعات. وما الاحتفاء بذكرى مولد رسول الله إلا تأكيد لتوسع دائرة الالتصاق برموز المشروع الإلهي. فكبريات الدول الإسلامية اكتظت شوارعها بالاحتفالات كما في اليمن، وكذلك فتح ملفات السيرة في الندوات المصاحبة كما في الأردن والمغرب، واكتظت حلقات الذكر لدى الاتجاهات الصوفية في مصر والجزائر، وخرج الشيشانيون في الشوارع بأبهى صور الإحياء الذي تختلط فيه العادات الشعبية بالشعائر الدينية، وأقيمت الندوات الدينية في أندونيسيا، ونظمت كارنفالات ذات صبغة دينية في ماليزيا.
أصبح اسم «محمد» على رأس قائمة أسماء المواليد الجدد في بريطانيا العام الماضي، وكان في أعلى قوائم الأسماء في هولندا وبعض المدن الألمانية. هذا برغم الدعاية المضادة لنبي الإسلام في العقود الأخيرة
وشهدت تركيا هي الأخرى احتفالات بأشكال شتى، فكرية واجتماعية واسعة. وحظيت احتفالات مدينة القيروان التونسية بذكرى مولد الرسول الأسبوع الماضي باهتمام خاص، محلي وإقليمي. فقد تدفق عليها عشرات آلاف الزوار الذين يسعون للمرور بتجارب روحية فريدة، وهو ما يجلب للمدينة حركة اقتصادية لا تشهدها طيلة السنة. وقال وزير الشؤون الدينية إبراهيم الشائبي أن محافظة القيروان سجّلت ما يفوق المليون زائر ليلة الاحتفال بالمولد النبوي الشريف واليوم التالي. وجاء الكثيرون من الجزائر وليبيا المجاورتين، وقال بعضهم أن الاحتفال بالمولد النبوي لا يكتمل بالنسبة لهم إلا في ساحة «أولاد فرحان» القريبة من جامع عقبة بن نافع، مكان الاحتفال الرئيسي بالمولد النبوي. أما فلسطين فقام أهلها بتزيين المساجد والشوارع، وأقيمت مسيرات ومهرجانات دينية، ونظمت جلسات لقراءة القرآن وسلطت المحاضرات الضوء على حياة النبي وتعليماته.
إن الحديث عن الدين وموقعه في الحياة العامة ما كان ليتخذ الزخم الذي يطرح حاليا في وسائل الإعلام وتصدر حوله الكتب والدراسات الأكاديمية لولا تمايز الإسلام بحركيته وشموله وقدرته على مخاطبة العقل والتناغم مع الفطرة الإنسانية. وعلى مدى التاريخ لم تُجدِ محاولات احتواء الدين او محاربته او السعي لإبعاده عن الحياة، وما أكثر الحكام الذين اعتقدوا أن بإمكانهم تحجيم هذا الدور، ولكن سرعان ما اكتشفوا ضآلة حجمهم مقارنة بالقدرات الذاتية للدين واستحالة احتوائه ضمن أطر ضيقة. هذا برغم السعي المتواصل عبر التاريخ لاستهداف شخص النبي بحملات التشويه والإعلام المضاد، وقد استشهد عدد من أنبياء الله ومنهم يحيى بن زكريا، وكاد عيسى بن مريم يُصلب لولا التدخل الإلهي في اللحظات الأخيرة لرفعه من الصليب الى جواره. وما أكثر ما تعرض له محمد من الأذى ومحاولات الاغتيال حتى قال: ما أوذي نبي كما أوذيت. وكما لم يسلم محمد من المؤامرات والدسائس ماضيا، فإن محاولات اغتيال شخصيته مستمرة حتى اليوم. فما يزال المشروع المضاد لمشاريع السماء ناشطا بدون تردد. مدعوما بالقوى الرافضة لمشاريع السماء. ولكن الله جعل في الدين قوة ذاتية للتغلب على هذه المعوقات، فهو يتناغم مع الفطرة ويتحدث إلى النفس الإنسانية، ويسعى لملئها بالإيمان ورفعها إلى المستويات العليا من الروحانية والأخلاق.
فمثلا أصبح اسم «محمد» على رأس قائمة أسماء المواليد الجدد في بريطانيا العام الماضي، وكان في أعلى قوائم الأسماء في هولندا وبعض المدن الألمانية. هذا برغم الدعاية المضادة لنبي الإسلام في العقود الأخيرة، وبرغم انتشار التطرف اليميني في الغرب، وهو تطرف يصنف محمد بن عبد الله على رأس قائمة الأعداء المستهدفين بالقذف والتشويه، إلا أن تأثير خاتم الأنبياء يزداد توسعا. فالمسلمون في البلدان الغربية تصاعدت أعدادهم وبلغوا مواقع سياسية عليا في بعض هذه البلدان. فعمدة لندن رجل مسلم لا يخفي هويته، وكذلك عدد من البرلمانيين وأعضاء المجالس البلدية في العديد من البلدان الغربية. صحيح أن من يرفع شعارات محمد كثيرا ما يجد نفسه وراء القضبان في بعض البلدان العربية، ولكن ذلك يؤكد قوة نفوذ النبي عليه أفضل الصلاة والسلام وما تركه للعالم من إرث إنساني لا يستطيع أحد تجاوزه او التقليل من شأنه، بل يخشاه الطغاة ويحسبون له ألف حساب.
الشعوب العربية والإسلامية مشدودة لهذا الدين ونبيه محمد بن عبد الله، ولذلك لا يستطيع أي حاكم تجاوز هذه الحقيقة. هذه الشعوب تهفو للتعرف على المزيد من حياة محمد ورسالته، وإن كان هناك من القوى من لا يريد لها ذلك. فهي ترى في ذكرياته ترويجا للمشروع الذي تعارضه لأنه يحرر الإنسان ويعمّق صلته بربه. ولذلك فهي تغضب عندما يتعرض نبيها للتجريح والاعتداء. وفي ظل الثقافة السائدة في الغرب، أزيلت قداسة الدين وما يرتبط به من رسالات سماوية. فتحت شعار «حرية التعبير» لم تبق قداسة للسيد المسيح أو محمد عليهما السلام، وحين تتداعى تلك القداسة تتراجع قيمة الدين، ويتم التعامل مع أنبياء الله كسائر الأفراد ذوي المكانة الاجتماعية او المهنية المتميزة، ولكن بلا قداسة. هذه وجهة نظر القوى الغربية التي ترى في الانتماء للدين والتشبث بمحمد من أسباب قوة هذه الأمة وصعوبة تركيعها. وقد تمادى بعض هؤلاء في استهدافهم الدين، وأسقطوا قداسة القرآن بتكرار حرقه او إهانته بأساليب أخرى كتمزيقه او وطئه. وما أكثر ما وجّه لرسول الله من إهانات منكرة. هؤلاء هم الذين استهدفهم محمد للهداية والذين دعا الله أن يهديهم سواء السبيل. مع ذلك لم تُجدِ تلك الأساليب، وبقي الإسلام مصونا في نفوس أتباعه، وتوسعت دائرة انتشاره. إنه صراع بين الله والشيطان، بين القداسة المشفوعة بالسمو الروحي والقيمي، وثقافة الانحلال من الأخلاق والقيم، تلك الثقافة التي أوصلت بعض المجتمعات إلى حافة الهاوية والخواء الروحي والأخلاقي.
وسوم: العدد 1052