غزة.. ابتلاء الأمة الأكبر!!
الابتلاء سنة ماضية، لجموع السائرين إلى الله تعالى، جعله الله سنة ربانية ثابتة، يزن فيها عباده، ويختبر فيها صدق إيمانهم، وصلابة مواقفهم، وقوة مضائهم، وحسن ظنهم بربهم سبحانه وتعالى.
فبها يرتفع أقوام، فيزدادون إيماناً بالله، وقرباً منه سبحانه وتعالى، وتصديقاً بكتابه ورسوله، ويقيناً بوعده ووعيده، فهؤلاء هم محط عناية الله وحفظه، وعزته وكرامته.
وبها يطرد أقوام، إذ ينكصون على أعقابهم، وينقلبون على إيمانهم، ويرتدون على آثارهم، وتظهر ما كانت تخفي نفوسهم، من نفاق وشقاق، وشك وتشكيك، وتبدأ ألسنتهم تلوك أحاديث الفتنة، وترويج الإشاعات، وإثارة اليأس والأحباط في الصفوف.
وسنة الابتلاء صور تعددت أشكالها، وتباينت أحجامها، وتلونت وسائلها، فمنها فردية خاصة، ومنها جماعية عامة، ومنها خفيفة سريعة، ومنها ثقيلة بطيئة، ومنها ما يكون في الشر، ومنها ما يكون في الخير.
ومن الابتلاءات العامة الثقيلة البطيئة، التي ابتليت بها الأمة جمعاء، بشقيها العربي والإسلامي، فلسطين بشكل عام، المسجد الأقصى وغزة بشكل خاص، هذا الابتلاء الذي تقف فيه غزة تنافح عن مسرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، الذي يرزخ تحت الاحتلال منذ ما يزيد على خمسين سنة، ديس فيها ودنس، واعتدي عليه، وقتل فيه رواده وقوامه ومصلوه، وتعرض هو ورواده لأبشع أنواع التدنيس والاعتداءات، فلم تراع فيه حرمة لشيخ كبير، أثقلت السنون عمره، وأحنت ظهره، وابيضت لحيته، ولا امرأة عفيفة كريمة، لطم وجهها، ونزع حجابها، وأسقطت أرضاً، والأمة في حالة ترقب وانتظار، في حالة ذهول وغفلة، الأنظمة ساهية لاهية، حتى التنديد والاستنكار تركوه، وسائر الأمة في هموم عيشهم وحياتهم المادية غارقون غارقون.
وحدهم أهل غزة من ينتفض للأقصى وأهله، وحدهم من يحمل هم الأقصى وأهله، وحدهم من يستعدون لتحريره ونصرته، وحدهم من يأخذون بأسباب إرهاب من احتله ودنسه، وحدهم من يقدم كل ما يملك في سبيله بنفوس رضية،، وحدهم من يقدمون دماءهم ودماء أبنائهم العزيزة الغالية رخيصة، بلا تأفف ولا منة، ولا ينتظرون من أحد أجراً ولا ثواباً، إلا من رب الأرباب سبحانه وتعالى، فمنه يستمدون العون، وإليه يرفعون أكفهم، وفي محرابه تسجد جباههم، وفي ظلمات الليل تسمع مناجاتهم وابتهالاتهم، وله وحده (تذرف ) دموعهم، ولسان حالهم مع ربهم: لعلك ترضى، لعلك ترضى، إن لم يكن (بك علينا ) غضب فلا نبالي.
وأعتقد جازماً أن أهل غزة بمجموعهم بشكل خاص، وأهل فلسطين في جنين ونابلس والقدس والخليل وغيرها بشكل عام، هم من عناهم سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: " لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم ( ولا من خذلهم ) ولا ما أصابهم من لأواء، حتى يأتيهم أمر الله. وهم كذلك"، قالوا: يا رسول الله وأين هم؟ قال: "ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس".
ووالله إنهم لعدوهم قاهرون، ويا له من قهر عظيم!، ( وغيظ ) وحقد تظهره وحشيتهم في الفعل والقول،، ووالله ما ضرهم من خالفهم وتخلى عنهم وقلل من شأنهم، وخطأ سعيهم وجهادهم، ووالله ما فت في عضدهم، ولا أوهن عزمهم ما أصابهم وحل بهم من بطش عدوهم، ولا من جرائمه البشعة، بل ما ازدادوا إلا صبراً ومضاء، وسيأتي أمر الله بالنصر والتمكين وهم على ما هم عليه من إيمان وعزيمة وجهاد وبذل.
غزة وأهلها، بجهادهم وتضحياتهم التي تعجز عن تقديمها واحتمالها دول كبيرة، التي سرعان ما تنهار لو أنها تعرضت لحصار طويل الأمد، كالذي تعرضت له غزة، غزة هذه في حقيقة الأمر أنها ابتلاء هذه الأمة، بكل فئاتها وعناصرها ومكوناتها؛ فهي ابتلاء:
لحكامها؛ ويا لها من ابتلاء شديد لهم، لو كانوا يعلمون، والحديث هنا عن الحكام الذين لم يتورطوا بقتل شعوبهم، ولم يوغلوا في دمائهم، وقصفهم، والذين لم ينخرطوا بعمالات أو خيانات، فهؤلاء أمرهم محسوم عند ربهم، الحديث هنا عن الحكام الذين مازالت تؤلهم جراح أمتهم، لعلهم يستيقظون، لعل هذه الجرائم البشعة تفتح عيونهم، لعل هذه الدماء البريئة توقظ بصيرتهم، وتحيي ضمائرهم، لعل ولعل. وإلا فإن دعوات المظلومين لن تخطئهم سهامها، في الدنيا، وفي الآخرة الخزي والندامة.
لعلمائها؛ نعم للعلماء الذين لا تقل مسؤوليتهم عن مسؤولية الحكام، فعليهم أولاً: واجب النصح بل والأمر لهؤلاء الحكام الذين أخذتهم الغفلة أو الجهالة أو العمالة حتى يرجعوا إلى الله، ويهبوا لنجدة أهلهم وإخوانهم، وثانياً: النصح لأمتهم شبابها وشيوخها، رجالها ونسائها، يستنهضوا هممهم، ويحيوا مواتهم، ويتقدموا الصفوف، وتزداد حركتهم، حتى لو كلفهم ذلك بعض الثمن، يدفعونه من حريتهم بالسجن، أو أمنهم بالضرب والاعتداء عليهم،، المهم أن يعذروا إلى الله، (ويقوموا ) بواجب الوقت، وهو إحياء فقه النفير العام، وتهيئة الأمة للجهاد في سبيل الله.
لجيوشها؛ نعم جيوش الأمة التي تنفق عليها الملايين، كمرتبات وتسليح وإعداد وتأهيل، فإن لم يكن هذا الوقت وقتهم، فمتى يكون؟ إذا لم تحركهم الدماء المتدفقة، ولا المقدسات التي تدنس، ولا الأعراض التي تنهك، ولا الأرواح التي تقتل؟ ولا المستشفيات التي تقصف؟ ولا المدن التي تدمر؟ فمتى يتحركون؟ّ فليعلم قادة هذه الجيوش وأفرادها أنهم غداً سيقفون بين (يدي ) الله تعالى، وسيسألهم عن واجب النصرة الذي كان عليهم القيام به، ماذا فعلوا؟ وماذا قدموا؟ً!
لأحزابها وجماعاتها ونخبها؛ أين كنتم؟ وما الذي فعلتموه وقدمتموه لتحريك حكامكم وجيوشكم وعلمائكم؟ وماذا قدمتم وبذلتم في سبيل ذلك؟ أم لعلكم اكتفيتم بخطابات ألقيتموها؟ أو بيانات كتبتموها؟ أو مؤتمرات عقدتموها؟ أو مظاهرات نظمتموها لساعات ثم رجعتم لبيوتكم آمنين مطمئنين؟ في الوقت الذي تقصف بيوت الآمنين في غزة، وتشرد العائلات، أو تقتل لا فرق؟!!
للأمة كلها؛ شبابها شيوخها، رجالها نسائها، كبارها وصغارها، هل أقلقكم ما يحدث؟ هل أحزنكم؟ هل أدمى قلوبكم قبل مآقيكم؟ هل قمتم في الليل تناجون ربكم؟ هل صرختم في وجوه قياداتكم وحكامكم وجيوشكم وأحزابكم؟! بربكم ماذا فعلتم ؟!
أيها الأب، ماذا كنت ستفعل لو كنت أنت مكان ذلك الأب الذي يلملم أشلاء أبنائه؟
أيتها الأم، ماذا كنت ستفعلين لو كنت أنت مكان تلك الأم التي فقدت كل أبنائها؟
أيها الزوج، ماذا كنت ستفعل لو كنت أنت مكان ذلك الزوج الذي يبحث عن زوجه تحت ركام بيته؟
أيتها الزوجة، ماذا كنت ستفعلين لو كنت مكان الزوجة التي بلغها للتو نبأ استشهاد زوجها؟
وماذا كنت ستفعل لو كنت مكان ذلك الذي بلغه للتو استشهاد عائلته كلها... أولاده بناته زوجته إخوانه خواته مع أولادهم؟!!
الابتلاء كبير، وعاقبته ستكون وخيمة، وما بعدها لن يكون كالذي قبلها، فليقم كل منا بدورة بصدق وأمانة ومسؤولية، مستذكراً موقفه ووقوفه غداً - مجرداً من كل الألقاب والرتب – بين يدي الله تعالى الذي لا تخفى عليه خافية، فليكن لك في هذا الوقت سهم، تبذل فيه وسعك وجهدك.
وسوم: العدد 1055