طوفان الأقصى وتغيير المفاهيم
في الحق قد تكون هذه هي المرة الأولى التي أشعر فيها أن الشعب الأمريكي الغارق في أوضار ثقافتة المادية, وواقعه الذي يعرفه القاصي والداني, يهتم بقضايا تدور خارج محيطه اللجب, كنت أخال أن الشعب الأمريكي لا يهتم إلا بسداد الفواتير التي تؤرق مضجعه, وتعكر صفوه نهارا وأن يأخذ حظه من قطوف اللذة الدانية والغرق في قاعة المدلهم ليلا, أما نصرته للقضية الفلسطينيه, وتعاطفه معها بهذه الصورة الصلدة التي تدل على تعاطف صادق وعميق هو ما جعلني أرفع حاجب الدهشة,وأظهر هذه الغبطة وهذا السرور, وصفوة القول إنه تعاطف منزه عن المنفعة, وقوامه الشعور الإنساني المحض, الذي يسعى للحفاظ على حياة شعب يريد الكيان البغيض أن يستأصلها ويزهقها,لقد أدركت هذه الشعوب بأن ليس هناك وسيلة لانقاذ غزة, وأطفال وشيوخ غزة, سوى تلك المظاهرات النبيلة المنددة بعسف حكوماتهم, وتعاونها الموثوق مع الكيان المغتصب السادر في غيه, والممعن في ضلاله, هذه الشعوب التواقه دوما للحرية أيقنت حتى تكون غزة في مأمن من خطر الإبادة, وغيرها من الأخطار التي تحدق بها, أن تواصل في تظاهرها المندد بعنجهية الاحتلال, ونازيته الصارخة, وبربريته المعهودة, ولعل كل هذه الشواهد تشير على عدة معطيات من الواجب علينا رصدها والوقوف عندها, ففي وجهة نظري القاصرة إن شيء عظيم قد نشأ, فبوسعي أن أؤكد لكم, وبإمكانكم تصديقي, أن لا ريبة تتنازعي, أو شك يخامرني مطلقا في عاطفة الشعب الأمريكي وإنسانيته المطلقة, و لكن ثمة أشياء ينبغي علينا أن نفكر فيها, ونقف عليها ونطيل الوقوف, حتى ونحن في ظل هذه الجائحة التي تمر بها غزة الصامدة على عرك الشدائد, لقد كانت الأيام تمضي أيها السادة خلال سنوات الابتلاء, دون أن نشاهد مثل هذا التعاضد, والحرص على الحياة الإنسانية التي قدستها الأديان, وصانتها القوانين, ورعتها الأخلاق, وكأن تلك الشعوب أدركت فجأة أن التهاون في مثل هذه الفظائع التي يرتكبها الصهاينة من الآثام التي لا يمكن تداركها, نحن هنا لا نغمط الغرب حقه, أو نجحد فضله, فقد انبرت جموع غفيرة منه فيما مضى مستهجنة ومستنكرة ما تكابده غزة من قتل وتنكيل, ولكن تلك المظاهرات لم تكن بتلك الحدة وهذا الالحاح الذي نبصره الآن, ففي تقديري أن هذه الشعوب المرهفة قد أتيح لها ما لم يكن متاحا لها من قبل من معرفة ودراية بخبايا الأمور, فقد نجحت الجاليات العربية والإسلامية التي تعيش الآن في الغرب في تنوير هذه الأمم بحقيقة الصراع الذي يجري في فلسطين, وأن الشعب الفلسطيني وحضارته ومقدساته التي اجترئ عليها عتاة اليهود هو صاحب الأرض والأحق بالعيش فيها, وأن نفس هذا الشعب الذي تعتدي عليه اسرائيل الآن في عهود غابرة كان يكبر الحياة الإنسانية, ويرفض المساس بها عمدا كان أو خطأ, ولعل الحقيقة التي لا يرقى إليها شك, والواقع الذي لا تسومه مبالغة, أن اليهود في بدايات تدفقهم إلى فلسطين في مطلع القرن الماضي, لم يحتاجوا أن يدفعوا عن أنفسهم أنكال البغي والعدوان, فالشعب الفلسطيني لم يكن يكن يعاني من ضعة النفس التي يعاني منها الصهانية, بل كان سمحا كريما يوادد من قدم إليه, ويتحفهم بسجايا نبيلة توارثوها من أسلافهم ومن نبع دينهم الصافي الذي لا يخالطه كدر, أدركت هذه الشعوب الغربية رغم ضخامه الآله الإعلامية لليهود بفضل تلك الجاليات العربية والإسلامية أن الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا وألمانيا واستراليا وغيرها من دول الصلف والغرور التي لا تعرف لحياة الأفراد والجماعات حرمة, أنها قد ألحت على فلسطين بالكيد والتربص والاعتداء, حتى اضطرتها إلى ضعف وهزال شديد, وهدفها من كل هذا أن تذعن إليها, وأن تظهر الطاعة والامتثال لما تبتغيه, ولكن ما ترومه دونه خرط القتاد, فهي وإن لم تستطع أن تدفع عن نفسها مظاهر البغي والعدوان ما زال شبابها وعرانينها يكبرون فلسطين, ويتهافتون على الموت من أجلها, الآن أيها السادة تمعن هذه الشعوب التي نحسبها غنية مترفة, تعيش في دعة وسعة, في مآلات هذا الصراع الدامي بين العرب والصهاينة, ويقينها إن هي صمتت وكفت عن الرفض والانكار أن غزة التي استخفت بالحياة, واستهانت بها, من أجل صون كرامتها وعزتها سوف تؤول إلى زوال, هذا يعني أن تلك الشعوب التي أزرت بها الحروب من قبل ستتصدى لحكوماتها, وستجد منها عنتا لم تلاقيه من قبل, كما أنها لن تكتفي بما يجري في غزة, بل ستنتبه لدماء أخرى تستباح في مناطق أخرى في الشرق الأوسط أو افريقيا, وأنها بعد أن اتضح حجم الكذب والتدليس في التعاطي مع ملف غزة من قبل أشهر المؤسسات والقنوات الاخبارية, لن تكتفي بتصديق كل ما يقال لها, بل ستمحص الأخبار وتسبر غورها, حتى تصل إلى برد اليقين.
أيقنت الشعوب الغربية أن حكوماتها قد سقطت سقوطا مدويا في حضيض البربرية والسادية الهوجاء, وأنها تواطئت مع دولة الاحتلال في كل جرائمها, فهي الداعمة والمهللة لكل فوادحه, أدرك الشعب الأمريكي أن رئيسه ووزير خارجيته, قد أهدرا حياة الأطفال في غزة وأن دولتهم تسلطت على فلسطين كما تسلطت على كثير غيرها من أقطار العرب, ما لا يتنابنا فيه شك أن هذه الشعوب لن تقبع فيما كانت عليه من غفلة غافلة, ولكن ستزيج عنها جدار التقصير وستنفق غداتها, وأول ليلها, في قراءة وتدبر لذلك الدين الذي جعل متحدث حماس يظهر بهذا الجلد والثقة كأنه يمتلك من وسائل البأس والبطش ما لا تملكه اسرائيل, لقد عرفت هذه الشعوب أن مجاهدي القسام وغيرها من حركات الكفاح المسلح ألا أبو عبيده ولا اخوته يطمئنون إلى القتل, ولا يستريحون إليه ولكنهم يقاتلون عدوا غاشما تسود فيه الضغائن والأحقاد, ويدعم هذا العدو دولا لا تبتغي إلا الموارد والمال, على ضوء ما أوردناه نستطيع أن نزعم أن تلك الدول الباغية سيأتي عليها يوما تندم فيه على كل تلك المخاز التي اقترفتها, وأن خططها التي دبرتها, وكيدها الذي كادته, ستنجلي غمرته بفضل جهاد يحرص كماته فيه على الموت كما يحرص جيش اسرائيل على الحياة, إن تلك الدول التي تحرص على الشر, وترغب فيه, وتتهالك عليه, قد علمت أن الصهاينة رغم تبجحهم بقوة جيشهم, وزعمهم بأنه الجيش القاهر لمن حوله, إلا أن كتائب القسام قد فضحت ضعفه, وجبن أفراده.
نذكر في خاتمة هذا المقال شعوبنا العربية الوادعة التي ينظر الكثير منها إلى أحداث غزة في رتابة وملل, أن تحذو حذو الشعوب التي أظهرت حزنا ولوعة, وأن تكشر عن أنيابها, وتهب من سباتها, وتتمسك بعرى دينها, وتعرف أن عزتها تنبع من أصالة هذا الدين وسننه وعوارفه, عليها أن تؤوب إليه, وأن تسعى إلى نشره واذاعته, وأن تتفانى في تطبيق ما جاء به هديه, وأن ترعى سنامه الذي يكفل لها نزع هذا الشر المحيط الذي وضعه الغرب في خاصرتها.
وسوم: العدد 1059