نستعين على «المتمسخرين» بحجج «الأعداء»
يبدو أن علينا الاستعانة بحجج كتّاب إسرائيليين، من أمثال الكاتب والصحفي النادر المثال جدعون ليفي، كي نقنع أبناء جلدتنا بأن يكفّوا عن «التّمَسْخُر»، على الأقل، على أحزان الفلسطينيين، التهكّم على تضامنهم مع أنفسهم، أو تمسّكهم بنتف من هوياتهم فيما يذبحون، بصخب، على الهواء مباشرة.
وللحقّ، ليس ليفي وحده، فيهود نيويورك، والكثير من شخصيات يهودية أوروبية، وسواها حول العالم. اُنظر مثلاً بياناً نشره 85 مثقفًا يهوديًا، بمن فيهم الرئيس السابق لمنظمة «أطباء بلا حدود» روني براومان، وجاء فيه: «نحن كيهود نشعر بالذعر من انتهاك دولة إسرائيل للقانون الدولي في غزة دون أي عقوبات، ونرفض هذه المذبحة التي ترتكب باسمنا». وكان ذلك في اليوم الـ 25 للحرب. بل حتى في قلب القدس المحتلة، شاهدنا أكثر من فيديو لقمع شرطة الاحتلال الوحشي ليهود خرجوا للتضامن مع الفلسطينيين، أو لمجرد قول لا للحرب، أصوات غاضبة ستجدها في كل مكان. وبديهي أن الأمر لا يتعلق بـ «حماس» نفسها، لأن، من البديهي أيضاً والواضح جداً، أن الحرب على الفلسطينيين بدأت قبل، وبعد، السابع من أكتوبر.
سيسهل على المنكرين القول إن الفيلم، وكل حركة «المؤرخين الجدد» هي مجرد تنويعات ديمقراطية تشجعها إسرائيل من أجل صورتها كديمقراطية راسخة ومسترخية، لكن الفيلم يدلّك على حجم المعاناة والخطر
لقد وصل الأمر بأحد الكتاب «المُتَمَسْخِرين» إلى حدّ التنكيل (على صفحته في فيسبوك) بـ «خصومه» الفلسطينيين والعرب بترديد النشيد الإسرائيلي «هاتيكفاه»، إلى جانب احتفائه بقصائد في مديح إسرائيل، واتهام الكاتبة الفلسطينية عدنية شبلي بأن روايتها «نص منسوج قلباً وقالباً على منوال رواية» لكاتب إسرائيلي (لا مشكلة في رأي نقدي أدبي بالطبع، وفي الأساس لم يقدّم معرض فرانكفورت للكتاب رأياً نقدياً برواية شبلي، لكن الكاتب المكيود وَجَدَ أن عليه قول كل ما يغيظ الفلسطينيين ومناصري قضيتهم، جملة وتفصيلاً)، واتهام اليساري العربي بأن «تحت جلده داعشياً متخفياً يحمل القرآن بيد والساطور باليد الأخرى»، ولم يفتْه أخيراً، وليس آخراً على ما يبدو، أن يبارك فوز اليمين المتطرف بالانتخابات التشريعية في هولندا، مرفقاً المباركة بصورة لـزعيمه خيرت فيلدرز.
وقبل أن يخطر لك أن تواجهه بحجج شهود وكتّاب إسرائيليين، سيباغتُك بالقول: «هناك فئة من الساسة والمفكرين والكتاب والصحافيين تكره ذاتها: تكره منبتها القومي، أو الديني، أو الاجتماعي، أو الجنسي.. الخ. هي حالة نفسية: كراهية الذات. نجد هذا الأمر لدى العرب والكرد والإنكليز والفرنسيين والأمريكيين.. لدى اليهود أيضاً توجد هذه الفئة. حين تقرأ لإيلان بابيه، أو نورمان فنكلشتاين، أو جدعون ليفي.. لن تجد مجرد نقد لإسرائيل، بل كراهية شديدة للذات،..».
من لم يكن قد شاهَدَ الوثائقي الإسرائيلي «طنطورة»، أو عرف من قبل عن تلك المجزرة، «المغمورة»، بالقياس إلى أخواتها «دير ياسين»، و«كفر قاسم» و«بحر البقر»، وسواها الكثير، ربما قد شاهد الوثائقي أخيراً بسبب الحرب على غزة. والفيلم هو توثيق للمجزرة المؤلمة المرتكبة غداة النكبة العام 1948 (أحد ضيوف الفيلم إيلان بابيه)، بقدر ما هو رواية مؤرخٍ، هو أحد المؤرخين الجدد في إسرائيل، هو ثيودور كاتس، الذي قدم أطروحة جامعية (حازت علامة 97 من مئة أول الأمر) وبحثاً تاريخياً استحق بسببه المحاكمة، ثم إلغاء علاماته الجامعية، وهجوماً وتنكيلاً أدى لإصابته بنزيف دماغي.
سيسهل على المنكرين القول إن الفيلم، والأطروحة، وكل حركة «المؤرخين الجدد» هي مجرد تنويعات ديمقراطية تشجعها إسرائيل من أجل صورتها كديمقراطية راسخة ومسترخية، لكن الفيلم يدلّك على حجم المعاناة والخطر الجديين المحدقين بكل كلمة حق، وسنرى كيف أن حرب غزة فضحت أبسط المزاعم الديمقراطية، عندما اعتقل فنانون وكتاب وناشطون ونواب في أراضي الـ 48 من أجل كلمة.
سيسهل كذلك أن ينسب موتورٌ ما تلك الضمائر الاستثنائية إلى كراهية الذات.
إن كنتَ مصرّاً، شاهدْ مقابلة أجريت مع المؤرخ الأمريكي (اليهودي) نورمان فنكلشتاين، وفيها يحاول أن يعطيك مفتاح فهم ما يجري هذه الأيام، عبر النظر إلى غزة كمعسكر اعتقال لأكثر الأماكن المأهولة في العالم.
في «متحف الديمقراطية» الإسرائيلي حرق بيوت (عائلة الدوابشة)، مصادرتها، هدمها لأقل سبب، محو قرى (انظر تصريحات سموتريتش التي لم تستسغها أمريكا نفسها)، دعوات لاستخدام النووي، وأكثر..
ويمكنك تخيّل كل الإحصاءات المتضمنة لحالة المعتقل الكبير؛ الفقر والبطالة والاكتظاظ وحصار 17 سنة متواصلة، وجيل بحاله ولد هنا لا يعرف من الدنيا كلها إلا 360 كيلومتراً مربعاً.
قبل ذلك، لا يمكن أن يكون قد فاتك أن الحرب لم تبدأ في السابع من أكتوبر فقط، وهي حتى لو بدأت بالفعل في هذا التاريخ فقط، من يستطيع أن يفسر قتل 15 ألفاً انتقاماً لـ 1200، نرى بأم العين أنهم مدنيون وأطفال ونساء وعائلات تقتل بالجملة نياماً في بيوتها. أي ضمير!
هل تريد وسيلة إيضاح أخرى؟ هناك من بين الإسرائيليين أنفسهم من قال إن إسرائيل غاضبة مما فعلته «حماس» في السابع من أكتوبر، على أمر تفعله هي بشكل منهجي منذ خمسة وسبعين عاماً؛ قتل مدنيين، واعتقالات مديدة لأطفال ونساء، ولا بدّ أنك لاحظت بعضهم، أمس، على الشاشات وقد كبروا في قلب السجون الإسرائيلية «الديمقراطية».
بل إنك تجد في «متحف الديمقراطية» الإسرائيلي ما هو أكثر من ذلك بكثير، حرق بيوت (انظر عائلة الدوابشة)، مصادرتها، هدمها لأقل سبب، محو قرى (انظر تصريحات سموتريتش التي لم تستسغها أمريكا نفسها)، دعوات لاستخدام النووي، وأكثر من ذلك.
بالمناسبة، ليس لدي أي أمل بأن كل تلك الحجج بإمكانها إقناعك، من وصل إلى حالتك (حد التغزّل بديمقراطيتها في عزّ غضب الشارع العالمي على أفعالها) يصعب مخاطبته بالأساس.
وسوم: العدد 1060