لا... للغلو الفكريّ والدّيني
د. محمد عناد سليمان
خُلقان رأيتهما منذ وصلت إلى فرنسا من أهلها، الأوَّل: إفشاء السَّلام على من تعرف ومن لا تعرف. والثَّاني: ابتسامتك في وجه أخيك صدقة.
وقد نسمع من المغالين اعتراضًا اعتمادًا على قاعدة، الأصل، وما بُني على باطل فهو باطل، وردِّي:
ألم يكن في أقدمينا من العلماء من نفتخر بهم، ونعتَزُّ بهم، وقدَّموا للأمَّة والعالم ما ينفعهم إلى يوم الدِّين في العلوم كافَّة، كـ«الخوارزميّ»، و«الفارابيّ»، و«ابن سينا»، و«ابن الهيثم»، و«ابن حيَّان»، و«النّووي»، و«ابن المقفَّع»، و«الطبري»، و«المتنبي»، و«العسقلاني»، و«ابن رشد»، و«ابن بطوطة»، و«ابن خلدون»، و«الرَّازي»، و«الأصفهاني»، وغيرهم كثير.
-ألم يكن أكثر النَّاس نقدًا لهم، علماء الدّين والمغالين الذّين وصل بهم الأمر إلى تكفيرهم، وحرق كثير من كتبهم، كالإمام «الغزالي»؟ ألم يصف الشّيخ «الذهبي» في كتابه الكبير «سير أعلام النُّبلاء» كتاب «الغزاليّ» بقوله: «أراد إحياء الدّين فأماته»؟!!
-ألم يتم خنق «لسان الدّين ابن الخطيب» وحرق جثَّته، بسبب ما أورده في كتابه «روضة التّعريف بالحبّ الشّريف»؟! ألم يُسارع الوزير «سليمان بن داود» إلى قتله ليلة مثوله للدّفاع عن نفسه؟!!
-ألم يُطارد «ابن الفارض» في كلّ مكان بعد تكفيره واتهامه بالزَّندقة؟! ألم يبادر أكثر من عالم إلى وصفه بـمؤسس«عبادة الأنثى» لما أورده في شعره من ذلك؟!!
-ألم يصف «ابن الجوزيّ» كتاب «الأغاني» بأنَّ فيه كلّ قبيح ومنكر؟ ومع ذلك نجده من أعظم الكتب في ميدانها؟ في حين يصفه «التّنوخي» بقوله:: «ومن المتشيعين الذين شاهدناهم «أبو الفرج الأصبهاني»، كان يحفظ من الشّعر، والأغاني، والأخبار، والآثار، والأحاديث المسندة، والنّسب، ما لم أر قطّ من يحفظ مثله، ويحفظ دون ذلك من علوم أخر منها اللّغة، والنحو، والخرافات، والسِّيَر، والمغازي، ومن آلة المنادمة شيئاً كثيراً، مثل علم الجوارح، والبيطرة، ونتف من الطب، والنّجوم، والأشربة وغير ذلك، وله شعر يجمع إتقان العلماء وإحسان الظّرفاء الشُّعراء».
-ألم يصف «ابن القيم» «ابنَ سينا» بأنه إمام الملحدين الكافرين بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ؟!!«إغاثة اللهفان 2/374». ألم يتهمه «الكشميري» بأنَّه ملحد زنديق قرمطي ؟!!«فيض الباري: 1/166».
-ألم يُقتل «ابن المقفَّع»، وقد قُطعت أوصاله، وشويت أمامه ثم أمروه أن يأكل منها؟ !! على الرَّغم من ثناء العلماء عليه، وسعة علمه، وما تركه من آثار أدبيّة نفتخر بها لحاضرنا ومستقبلنا؟!!
-ألم يُكفَّر «الفارابي» لمجرّد محاولته محاكاة العلم، والبحث فيه، والحديث عن جوهرين من جواهر الفلسفة وهما: الموجود الممكن الوجود، والموجود الواجب الوجود؟!! ألم يذكر لنا في كتابه:«آراء المدينة الفاضلة» أكثر من عشر صفات للرّئيس والملك ليأخذ بحقٍّ صفةَ القيادة الحكيمة ؟!!
-ألم نجد مدافعين عن كلِّ هؤلاء من أبناء زمانهم، ومن خَلَفهم؟!! لماذا يتمّ التَّحجير على العقول ومنعها من القول والتّفكير ؟! أليست هناك ديكتاتورية فكريّة وعقليّة ودينيَّة من المغالين هي أشدُّ من الدّيكتاتورية السّياسيَّة؟!! أليس الإبداع الفكريّ في جوهره يقوم على الحوار والنِّقاش المدعَّم بأدلّته العقليَّة والنَّقليَّة؟!! إلى متى سنبقى نعتمد السَّباب والشَّتم في أدبياتنا الحواريَّة في حين أنَّ المطلوب هو تفنيد الفِكْر، وتوسيع المدراك؟!!