الحركة الجماعيّة

سلمان الغرايري

بالرّغم من أنّ الأمّة الإسلاميّة قد أدركت أنّ العمل لتحقيق النهضة عمل جماعي، إلاّ أنّها لم تلمس حقيقة التكتل الذي من شأنه إحداث مثل هذا التغيير. لذلك وجدت في الأمّة الجمعيات الخيرية والتربوية والأحزاب الوطنيّة والقوميّة والجماعات المسلحة وغيرها، وفي الأخير لا يكون لهذه التكتلات أي أثر إيجابيّ على المجتمع، بل تُجهد الطاقات وتفقد الأمة الثّقة في نفسها، كونها غير قادرة على إحداث التغيير.

وكون هذه التّكتلات غير قادرة على إنهاض الأمة يعود من جهة إلى الأفكار التي قامت عليها، فهي إمّا أفكار عامّة لا يمكن بلورتها في مشاريع حقيقية يتمّ تنزيلها على الواقع وإمّا أفكار فرعيّة تعالج مشاكل جزئيّة. علاوة على أنّها غير منبثقة من العقيدة الإسلامية التّي هي الأساس الحقيقي للنهضة. فمثلا الأحزاب الوطنيّة والقوميّة تقوم على أسس تخالف الإسلام مخالفة صريحة، فهي تعمل على تقسيم المسلمين وفق عصبيّات ذمّها الشرع كما أنّها في غالبها أحزاب إمّا ليبيراليّة أو اشتراكية. وحتّى الأحزاب الإسلاميّة، أغلبها في حقيقة الأمر أحزاب ليبيراليّة متأسلمة قائمة على فكرة التوفيق بين الإسلام والحضارة الغربيّة. ولذلك تجدها ترفع مطالب غامضة كالتنصيص على الشريعة الإسلامية كمصدر أساسيّ للتشريع أو إيجاد بند في الدساتير الوضعيّة ينصّ أنّ دين الدولة الإسلام وغيرها من المطالب التي تحمل بين طيّاتها أفكارا نقيضة للإسلام. فاستعمال لفظ "الأساسي" يفيد بأنّه ليس الوحيد وبالتالي يجوز وضع قوانين مصدرها حقوق الإنسان ومواثيق الأمم المتّحدة. علاوة على ذلك، إنّ الشريعة ليست مصدرا وإنّما هي الأحكام الشرعيّة العمليّة المستنبطة من الأدلّة التفصيليّة وفق آليّة معيّنة في الفهم وهي الإجتهاد. بالتالي فإنّ المصدر الوحيد هو الوحي وليس الشريعة. ومن هنا فإن النهضة لا يمكن أن تحصل على أساس فكرة غامضة أو غير مبلورة أو مختلطة بغيرها أو غير مكتملة المعالم أو لا تشكّل قاعدة فكرية تنبثق منها الأحكام وتبنى عليها الافكار.

وما يُراد من استعمال مصطلح الشريعة عوض مصطلح الوحي هو فتح الباب واسعا أمام تبنّي الأحكام التّي استنبطها المجتهدون والتّي توافق القوانين الغربيّة، أي دون البحث في قوّة الدّليل، فلا يُرجّح بين حكم أو آخر حين تعارض الإجتهادات إلاّ بما يُوافق المصلحة والهوى ولا مجال للحجّة والبُرهان والتّدقيق.

مثال آخر يعبّر عن عدم اتّخاذ العقيدة الإسلاميّة أساسا للنّهضة هو ما تقوم به الجمعيّات الخيرية من أعمال جمع للصّدقات، وإنفاقها على الفقراء والمساكين، وأعمال بناء المساجد والمدارس الشّرعيّة وغيرها باعتبارها أمورا حثّ عليها الشّارع وممّا يرضي الله والغاية منها الجنّة. صحيح أنّ الوحي يحثّ على الصّدقة والتّفقّه في الدّين... ، إلّا أنّ هذه الأعمال رغم أهميّتها لا تنهض بالأمّة ولا تُسقط الواجب عنها وهي لا تؤدي الى حلّ المشكلة الأساسية عند الناس كالفقر والجوع إلاّ إذا كانت ضمن نظام اقتصادي شامل مبني على أساس فكري عقدي كالنظام الاقتصادي المنبثق من العقيدة الاسلامية. علاوة على أنّ الدّولة هي التّي يجب أن ترعى شؤون النّاس في الإسلام وهي التّي تبني المساجد والمدارس بصفة دائمة وليس الجماعات. فالواجب من وجهة نظر الإسلام هو التّوجّه إلى الحكّام ومحاسبتهم على تقصيرهم في رعاية شؤون النّاس وكشف سبب تفشّي الفقر والجهل، والمتمثّل في فساد الفكرة التّي قامت عليها الأنظمة الحاليّة والإستعمار الذي ينهب مقدّرات الأمة. كما يجب التفريق بين الغاية من القيام بالأعمال وبين الجزاء الذّي يترتّب عليه من الله، ولا يجوز الخلط بينهما. مثال ذلك من ينشغل عن أداء صلاة المغرب حتى خروج وقتها بقراءة القرآن لأنّ كليهما محمود وجزاء كلّ منهما نيل رضوان الله. فلم يدرك أنّ الغاية من قراءة القرآن الكريم هي تقوية الصّلة بالله واستخلاص العبرة منه والعمل بما في محتواه والوقوف عند أوامره ونواهيه، والجزاء من وراء هذا القصد هو الثواب ونيل رضوان الله تعالى

أمّا الأمر الثاني الذي يجعل التكتّلات العاملة من أجل النّهضة غير قادرة على الرّقيّ بالأمّة فيعود إلى غياب كلّي لأيّ طريقة محددّة للوصول إلى الأهداف المرسومة. وهي تسير وفق ما يفرضه عليها الواقع ممّا جعل الواقع لديها مصدرا للتّفكير ويغيّر طريقة سيرها كلّما تغيّر. فتجد مثلا الجماعات التّي لا ترى التغيير إلاّ بالحديد والنّار تقاتل في بعض المناطق التي توفّرت فيها الأجواء الملائمة لذلك وتقتصر على الأعمال الخيريّة والدّعويّة في مناطق أخرى. نفس الشيئ بالنسبة للجماعات التّي تعمل من أجل التغيير عن طريق المشاركة في الحكم، فهي تتّخذ كلّ السّبل ولو خالفت الإسلام من أجل الوصول إلى غايتها ومن ثمّ تعمل على تبرير ذلك من خلال ليّ معاني نصوص الوحي وتأويلها لتوافق أفعالهم فتضفي شرّعيّة لما قامت به

إنّ مصير معظم الحركات القائمة في العالم الإسلاميّ الفشل الحتميّ في إحداث النهضة المرجوة على أساس الاسلام، وذلك لعدم قدرتها على تحديد مرض الأمّة الحقيقيّ والذّي تمثّل في سوء فهم الإسلام، والذّي أدّى إلى عدم إهتداء الأمّة إلى تبنّي قضيّتها المصيرية. وإهدار الطاقات في ما لا يحقّق الغاية والذّي يؤدّي غالبا إلى اليأس وفقدان الأمل في جدوى العمل من أجل التغيير

ولذلك فإنّ التكتّل الصحيح الذي من شأنه إنهاض الأمّة هو ذلك التّكتّل الذي يتّخذ العقيدة الإسلاميّة أساسا للنّهضة والذي يعمل من أجل إحياء قضيّة الأمّة المصيريّة في عقول ونفوس المسلمبن. وهو تكتّل تتبلور فكرته في مشروع تفصيليّ منبثق من العقيدة الإسلاميّة صالح للتطبيق عمليّا. وتكون طريقته في إيجاد فكرته مستنبطة من الوحي دون غيره ويكون العاملون فيه حاملين لنفس الفكرة، محيطين بمشروع كتلتهم واعين عمّا يدور حولهم، يعملون على تغيير الواقع الفاسد دون التّأثّر به، وبالتالي يسير التكتّل بخطى ثابتة دون أن يحيد عن غايته قيد أنملة، مدركا صلته بالله في كلّ عمل يقوم به وكلّ محنة تحلّ عليه، متمسّكا بما تبنّاه ما لم يثبت خطأه، عاملا مع الأمّة مستغلّا نقاط قوّتها ومراعيا نقاط ضعفها، مؤمنا بأنّ النّصر من عند الله وحده وأنّ العاقبة للمتّقين.