فرن حارتنا .. وطوابير بلدنا

مجتزأة من مذكراتي : "محطات صغيرة في حياة مواطن سوري " 

أعزائي القراء..

هذه حكاية واقعية تحكي إحدى مآسي بلدنا يوم بدأت مأساة الطوابير منذ عام 1963 ؟ ولكن تم تطويرها في عهد امبراطور الكبتاجون والحائز  على كاس تطوير السلاح الكيماوي والبرميلي والفوسفوري لتتحول المأساة من طابور قياس 100 متر إلى طابور بقياس عشرات الآلاف من الامتار .وليصبح لكل جرة غاز طابور، ولكل مادة غذائية طابور، ولكل جالون مازوت طابور ، ولكل امبير طابور، ولكل لتر بنزين طابور ، فكيف لايكون لكل رغيف خبز الف طابور !؟ 

مآسي الشعب السوري بدأت منذ عام 1963 حتى وصلت هذه المأساة إلى اقصاها في عهد إمبراطور  الإجرام ، فحصلنا بجدارة على تسمية "جمهورية الطوابير الاشتراكية والشعبية للصمود والتصدي .

 قصة فرن حارتنا تعتبر جنة لما يعيشه الشعب اليوم ولكنها كانت أساس المرض والعلة.

في عام 1963 كان إنقلاب 8 آذار الذي أتى بحكم حزب البعث في بداياته، وكان هناك تحمساً لدى الشباب البعثيين والذين أطلقوا على أنفسهم "الرفاق التقدميين" مقتبسين لقبهم من القاموس الشيوعي السوفيتي والذين إحتلوا مقاعدهم في الصفوف الأمامية ليطبقوا علينا تجارب الإتحاد السوفيتي المنقرض كما تجرى التجارب الطبية على الحيوانات الصغيرة في المختبرات .

عينت القيادة المدعو هلال رسلان محافظاً لمدينة حلب بين الفترة 12/8/1963 وحتى 17/12/1963 ، وخلال هذه الفترة القصيرة قلب مدينة حلب رأساً على عقب فلم يترك شيئاً في حلب إلا وأممه وإليكم هذه القصة من وحي تلك الأيام.

قبل وصول هلال رسلان لم تكن مدينة حلب تعاني من أية أزمة ،كنت أستيقظ بأكراً إلى فرن حارتنا حيث لا أحتاج لإنتظار الدور فلم يكن هناك دور ولا طابور فألقي على الشغيلة تحية الصباح:

-صباح الخير أبو أحمد..صباح الخير ياشباب..

أبو أحمد يرضى عليك ..تلاته كيلو خبز من بعد أمرك .

فيجيب الرجل : 

- مو تكرم أبو ياسين من شواربي…

ويتابع : ياحسن توصى ب "أخوك "أبو ياسين,

فالتفت إلى حسن وأقول له مازحاً: 

- دير بالك تسمع كلام معلمك أبو أحمد بدي الخبزات من بيت النار مو من شوارب معلمك .

ويضحك الجميع، أحمل الخبز الطازج منشوراً على جريدة و كأنه الورد الجوري وأتسلى بالاستمتاع بإلتهام رغيف كامل قبل أن أصل البيت.

قال لي حسن ذات يوم :يا أستاذ هشام لاتتعذب وتجي على الفرن كل يوم. أنا بأمرك, الساعة سته بالظبط الخبزات بكونوا عندك في البيت وباخود على كل كيلو زيادة نص فرنك يعني كيلو الخبز بسبع فرنكات باخود منك سبع فرنكات ونص فأجيبه:تكرم دقنك ومعهم حبة مِسْكْ ...

ودارت الأيام... كما تقول أم كلثوم وصار المحافظ هلال رسلان فأمم مدينة حلب بأكملها وصار ينزل إلى المدينة بلباس العمال تارة وبلباس الفلاحين تارة اخرى، ليفهم أبناء المدينة أن الثورة هي ملك للعمال والفلاحين.. فاللباس بنظره كان كافياً لإقناع اهل البلد باشتراكيته ،علماً ان العامل كان يصل خبزه الى بيته طازجاً كل يوم، والفلاح لم يكن بحاجة إلى فرن المدينة ، فخبز التنور في قريته لايقايض عليه. وانقطع الطحين عن الأفران لعدة اسابيع , وبدأنا في البيت بحملة بحث عن الخبز اليابس ولما قضينا عليه، بدأت الوالدة رحمها الله  تطبخ لنا البرغل كل يوم بدلاً عن الخبز مع وجبة اخرى بجانبه، ولما خشي والدي رحمه الله من تأميم البرغل على يد السيد المحافظ، قام بحركة بارعة بتموين عشرين كيلو غرام من البرغل.

ولما أذاعوا لنا بياناتهم بأن الخبز متوفر في الأفران المؤممة أسرعت إلى الفرن صباح اليوم التالي لأحجز خبز العائلة ، ولكن فاجأني طابور طويل أمام الفرن فوقفت في آخره . ابو احمد صاحب الفرن الطيب لم يعد موجوداً وحل محله الأستاذ رشيد موظف حكومي له عقدة بين حاجبيه ضرورية لفرض سلطته، أما العمال فبقوا في (وظائفهم) فهذه تعتبر إكرامية لهم .

كنت اقيّم تحركي باتجاه بوابة الفرن بالسنتيمترات وأنظر ورائي فأجد الطابور يتمدد إلى الخلف بتسارع مخيف،ولم يكن هذا المشهد السلبي هو الوحيد الذي تغير بين عشية وضحاها بل إختلاف أبناء الحارة بين بعضهم بسبب الدور ومشاكل الطابور وهذه مأساة أخرى بعد أن كانوا جيران وحبايب، اما المأساة الحقيقية فكانت (اجمل المآسي) حيث تقف إحدى السيارات ذات الصفة الرسمية وينزل منها سائقها المجند مخترقاً كل الصفوف ليصل إلى الأستاذ رشيد "المدير العام " الجديد لفرن الحارة مطالباً إياه بلغة الآمر الواثق :ستة كيلو للعقيد مصطفى، فيجيبه الأستاذ رشيد:أمر سيادتك وبدقيقة واحدة ينهى (الجنرال) مهمته وينطلق بسيارة العقيد الى بيته اولاً يسلم تلاتة كيلو الى زوجته أم محمود ثم يكمل مشواره الى بيت العقيد ليسلم باقي العهدة.

كان هذا المشهد يمر من أمامنا وأهل الطابور مندهشين بصمت وكأن على رؤوسهم الطير، ثم نلتهي بحالنا لنرَ كم بقي لنا حتي نصل إلى منصة "المدير العام" , وما أن نتفاءل قليلاً حتى تقف سيارة اخري باين عليها النعمة ، مرسيدس سوداء بستائر مسدلة على النوافذ ولكن لم يتقدم هذه المرة أي شخص باتجاه إدارة الفرن، وإنما إستخدم سائقها الزمور للفت نظر قيادة الفرن ثم فتحت نافذة السيارة وأمتدت منها كف بخمسة أصابع مفتوحة فُهِمَ منها طلبه.ركض حسن إلى السيارة بخمس كيلو خبز حسب الطلب ,اصبح هذا المنظر مألوفًا لنا ففي كل خمس دقائق كان المسؤولون يمتعوننا بسياراتهم الجميلة أمام الفرن حتى حفظنا عن غيب أرقامها.

تعودت على ذلك وتعود الجميع على ضياع يومهم وقوفاً بالطابور   بسبب شعار الفرن للعمال والأرض للفلاح والأسوأ أننا تعودنا على نوعية مختلفة من الخبز ذو طعم مختلف منقطاً ببقع صغيرة خضراء لم نعرف سرها حتى الآن , ولكن حمدنا الله على أن التجربة لم تستمر فأنهت الحكومة مهمة "السيد المحافظ" بتاريخ 17/12/1963 فاغلق باب مكتبه وأخذ أمواله وثروته بعد أن خلع لباس الفلاحين والعمال والمثقفين الثوريين ورماهم في سلة المهملات  ولم نعد ندري عنه شيئاً ثم بدئ بالبحث من جديد عن رسلان جديد.

وسوم: العدد 1066