صناعة النصر
في ثقافة المسلم النصر عطية إلهية ومنحة ربانية بناء على قول الله تعالى "وما النصر إلا من عند الله"، فهو الذي يحدده أجله وشكله وقسماته، وهذا لا يعني أنه يتحقق بالمعجزات بل هو مرتبط بالسنن أي مجموعة القوانين التي تتحكم في تحقيقه بإذن الله، هو مرتبط بالجهد البشري في بذل الوسع لحشد المستطاع من الأنفس والمعدات والظروف.
- تذكير ببديهيات فلسطينية: فلسطين هي وطننا الاول بقدسها وأقصاها وغزتها، وقد تأكد لكل عاقل أنه لا يمكن تحرير أولى القبلتيْن إلا بتحرير البلاد العربية من التصهين واتّباع دول الاستكبار العالمي التي تعمل جاهدة على إبقائها دويلات ضعيفة متخلفة متقاطعة لا وزن لها سياسيا وحضاريا، لذلك شنوا حربا عالمية على حملة المشروع الإسلامي الذين كانوا غصة في حلوقهم لأنهم يعدون فلسطين قضية دين وعقيدة، وحرب غزة حلقة من حلقات تلك الحرب الضروس التي يأمل المسلمون أن تنتهي بانتصار الإسلام وأهله، هنا لا بد أن نتساءل بكل صراحة وموضوعية: هل استجمعنا اساب النصر؟
- هل استجمعنا أسباب النصر: استبدت العاطفة بكثير من المشايخ والدعاة فأعلنوا وكرروا بكل ثقة أن حرب غزة تؤذن بتحرير فلسطين حتى أصبحت الصلاة في الأقصى أمرا قريبا، وهي بداية نهاية الكيان الغاصب، وتعدى كلامهم حدود الحماسة والتجييش، وسوّقوه على أنه الحق المبين، فهل هذا صحيح؟ يجب أن نحتكم إلى محكمات اليقين كما هي مسطرة في آيات القرآن وآيات التاريخ، فهناك السنن التي لا تحابي أحدا، ولا تبديل لها ولا تغيير، فليس لزاما أن ينزل الله النصر على أهل الحق لمجرد أنهم على الحق بل قد تكون الغلبة لأهل الباطل في جولات وجولات قبل أن ينتصر أهل الإيمان، وهذا ما يشهد به التاريخ منذ القدم، وإنما يرتبط النصر بتوفر شرطين أساسيين هما: استكمال العدة التي في طاقة المؤمنين:" وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ" -الأنفال/60، و بذل الجهد الذي في وسعهم: "وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ" - ) العنكبوت/69...فما هو المشهد اليوم؟ أهل غزة استكملوا العدة التي في طاقتهم وبذلوا الوسع الذي في جهدهم بحيث لم تترك المقاومة أي سبب من أسباب النصر الا وفرته بحسب طاقتها، وهذا حري أن ينزل عليها نصر الله لكنْ هناك تحفظان لا بد من اعتبارهما: الأول هو أن غزة بقعة صغيرة وثباتها أمام العدو معجزة كبرى لكن ليس من شأنه أن يقلب موازين المواجهة الشاملة بين المسلمين وأعدائهم الكثْر، والتحفظ الثاني هو أن قضية غزة – وفلسطين كلها – محاطة بالخيانة والتخاذل والنفاق، وكلها عوامل تفتّ في صلب القضية من الداخل وتتنافى مع أجواء النصر، ومعلوم أن النصر يتنزل على المؤمنين وبالمؤمنين "هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين" – الأنفال 62، ووجود طائفة كبيرة من المسلمين – الحُكام وعلماؤهم وأتباع هؤلاء – بعيدا عن ساحة المعركة بل وهم أقرب إلى معسكر الكفار- ثلمة كبيرة في الصف لن يتحقق النصر إلا بمعالجتها حتى تتضاءل وتنتقل من ظاهرة إلى مجرد استثناء لأنها حاليا ظاهرة سياسية بأتم المعنى، فهل هذه أجواء مناسبة لتنزّل الملائكة ومشاركتها في المعركة؟ كلا بطبيعة الحال، وتمايز الصفوف في الجهاد أمر ضروري وأساسي حتى يتميز الخبيث من الطيب، وبالتالي ما زلت معركة تحرير القدس بعيدة جدا.
وبعيدا عن التنظير والتناول التجريدي يجدر بالمسلم أن ينظر إلى حاله مع طوفان الأقصى ومع المواجهة الحاسمة ضد المشروع الكفري.
- ماذا فعلت أنت؟ حماس أدت ما عليها، كتائب القسام بهرت العالم بإنجازاتها ضد العدو، غزة دفعت ثمنا لم يكن أحد يتخيّله، فماذا عنك أنت؟ هناك حيلة نفسية انتشرت كالهشيم هي "جاهدوا بالدعاء" هي أقرب إلى الحجاب الذي يريح ضمير المنسحب من الميدان ويحول دون تحمّل المسؤولية...المسلم الواعي المتحرّق على القضية لا ينشغل بهوس كرة القدم والدماء تسيل أنهارا، فكيف إذا كان من النخبة المثقفة والمتدينة؟ هو يعرض عن كل كؤوس الأرض ويتابع ذلك البطل الحافي الجائع الذي يرابط تحت الأرض منذ 7 أكتوبر، بلا أخبار عن أهله، لا يحمل لا نياشين ولا ميداليات، يقمع أكبر جيش في المنطقة، يحاصره العرب ويتجاهله المسلمون، لا يثق إلا بسلاحه، لا يري "العالم المتحضر" إلا تحت حذائه...هذا المثقف المتدين يؤمن أن الانتصار هو ما تنجزه المقاومة في غزة بين يدي النصر الكبير المنتظر وليس ما ينجزه المدرب أو اللاعب الذي يتقاضى المليارات لتخدير الجماهير...المسلم يساهم في صناعة النصر بتبني القضية وجدانيا وعمليا، لا يكف عن الكتابة والحديث وبذل المال ومقاطعة سلع الأعداء، هذا أو فليتجنب الحديث عن النصر.
وسوم: العدد 1068