سومريون لكننا في مقبرة أخرى
كاظم فنجان الحمامي
ما لا خلاف عليه ولا جدال فيه أننا نحن أحفاد السومريين, الذين أسسوا أول الحضارات البشرية جنوب وادي الرافدين, فحققوا في الألف الثالث قبل الميلاد ما لم يحققه غيرهم في العلوم والفنون والآداب.
وما لا يصدقه العقل ولا يقبله المنطق أننا وعلى الرغم من مرور آلاف السنين نعيش الآن عند مقتربات العاصمة السومرية (أور) وتعني بالسومرية (نور), ونقطن في الأماكن التي استوطن فيها أجدادنا, من دون أن نحقق عشر معشار التحضر والتمدن الذي توصلوا إليه في الأزمنة الغابرة.
نعيش الآن في قرى بائسة خارج أسوار (ذي قار), المدينة التي زعموا أنها (جنة المستثمرين), فعلقوا لوحات الجنة المزعومة على حافات مكبات القمامة خلف جسر (الواحة) عند تقاطع طريق شيوخ والناصرية, ثم نشر الأمريكان ثكنات غربانهم حول مدرجات (الزقورة) المهجورة, فنبشوا الأرض المقدسة بمخالبهم الخبيثة, وغادروها مكرهين بعدما طمسوا اسم (تل اللحم), فصار اسمه (طليل).
لو اطلع القارئ الكريم على ما كتبه الدكتور (صاموئيل نوح كريمر Samuel Kramer) عن ابتكارات أجدادنا في عصورهم الذهبية, لسقط مغشياً عليه من هول الصدمة بسبب هذا البون الشاسع, بين ما توصل إليه أجدادنا قبل مئات القرون في الطب والهندسة والبناء والزراعة والصناعة والملاحة والتجارة والإدارة والتنظيم, وبين مراحل تخلفنا وتقهقرنا وتراجعنا في العصور المظلمة.
لقد كتب (كريمر) قائمة طويلة, شملت نحو (39) اكتشافاً وابتكاراً وانجازاً من الانجازات العظيمة, سبقوا فيها الشعوب والأمم. تطرق لها (كريمر) في كتابه الموسوم (التاريخ يبدأ بسومر History begins at Sumer), نذكر منها:
أن السومريين أول الأقوام الذين ركبوا البحر, وصنعوا السفن العملاقة والزوارق الكبيرة, وغلفوها من الخارج بالقار, ومن الداخل بالجلود السميكة. وأول من صنعوا المرساة (مخطاف السفن), وهم الذين أطلقوا عليه (أنكر), وأول من رسم المسالك الملاحية في عرض البحر, وأول من تعلموا فنون الغوص والغطس تحت الماء بالاستعانة بأكياس الهواء المصنوعة من جلد الماعز, وأول من تعلموا مبادئ علم الفلك, فدرسوا حركة الكواكب وعرفوا النجوم والمجرات, ورسموا القبة السماوية بدقة متناهية وصلت إلى 60% بالمقارنة مع صورتها الملتقطة الآن بواسطة التلسكوبات الالكترونية العملاقة, وأول من وضعوا التقويم الشمسي والقمري, ورصدوا مواعيد الخسوف والكسوف, وشخصوا الأبراج السماوية, وتبثوا مواعيد الفصول الأربعة.
فالسومريون أول الأقوام الذين صنعوا العدسات المقعرة والمحدبة, وصنعوا المرايا العاكسة من الكريستال والرمال البركانية, وهم أول الأقوام الذين اكتشفوا المعادن, وصنعوا منها فؤوسهم ومعاولهم وأدواتهم وأسلحتهم, وسكّوا السبائك الذهبية والفضية, وتفوقوا على بقية الأقوام في صياغة الحلي المرصعة المجوهرات, وصنعوا السيوف الفولاذية البتارة بأجمل صورها, وصنعوا الرماح والخناجر والدروع والأصفاد والسلاسل والبدلات الحربية المنسوجة من الحلقات الفولاذية الصغيرة, وتفننوا في صناعة الأواني النحاسية والفولاذية والمواسير والسلالم.
السومريون أول من وضع أسس علوم الطب, وأوجدوا مبادئ طب الأمراض النسائية, ومعالجة العقم, وطب الأسنان, وجراحة الجملة العصبية, والأمراض النفسية, وطب الأعشاب, وشيدوا المستشفيات التخصصية المنفصلة: للأطفال والنساء, وعرفوا الحجر الصحي.
والسومريون أول الأقوام الذين رتبوا المقامات الصوتية, ووضعوا درجات السلم الموسيقي (دو – ري - مي – فا – صو – لا – سي), وأول من شكل فرق الإنشاد لأداء التراتيل والترانيم في المعابد والاحتفالات.
والسومريون أول من صنع الساعة, وضبطوا التوقيتات الزمنية, ثم صمموا الساعات اليدوية بنقوشها المثبتة في ساعة اليد لسرجون الأول, والإله أينكي. ويؤكد صاموئيل كريمر أنهم أول الأقوام الذين عرفوا الطيران والتحليق في الفضاء, فصمموا الطائرات, واستعملوها في مسوحاتهم الجوية, ثم صنعوا الطائرات الحربية, وقصفوا بها حصون أعدائهم بقنابل مصنوعة من البارود المضغوط في الجرار الخزفية السميكة.
والسومريون أول الأقوام الذين دجنوا الطيور والأبقار والأغنام والجاموس, وأول من دبغوا الجلود وصنعوا الأحزمة والسروج والأحذية والحقائب, وأول من عرفوا غزل الأصواف الحيوانية, وابتكروا معدات الخياطة وصناعة السجاد.
السومريون أول الأقوام البشرية الذين سنوا الشرائع, وكتبوا القوانين, وأرسوا قواعد العدل والإنصاف, ونظموا عقود البيع والشراء, وعقود الإيجار والاستئجار, وأول الذين أبرموا الاتفاقيات الثانوية وبروتوكولات التعاون المشترك مع الأقوام المجاورة لهم, وعندهم أول حكومة ديمقراطية منتخبة في الفترة من 2674 قبل الميلاد إلى 2665 قبل الميلاد, وأول من أسسوا صناديق الرعاية الاجتماعية والضمان الاجتماعي, وأوجدوا النظام المصرفي, وشيدوا ملاجئ الأيتام, ومنتجعات النقاهة لكبار السن¸ وهم أول من سجلوا البيانات الشخصية للناس, وأول من أصدروا شهادات الميلاد للمواليد الجديدة.
السومريون أول من كتبوا القصائد الثنائية المختصرة (الدارمي), وكتبوا القصائد الرباعية (الأبوذية), وظهرت فيهم أول شاعرة, هي الشاعرة (آن هديوه آنا), التي كتبت أولى قصائدها الوجدانية للتعبير عن حبها لأمها (حنونة) أو (أينونا).
السومريون أول الأقوام الذين نظموا قنوات السقي, وعمقوا ترع الري, وصمموا قنوات تصريف المياه الخفيفة والثقيلة, وأول من شيدوا خزانات حفظ المياه الصالحة للشرب, وأول من استخرجوا المياه الجوفية من باطن الأرض, وأول من اكتشفوا أنظمة العوازل الحرارية والمائية, وأول من حددوا مواعيد البذار في الحقول والمزارع, وحددوا توقيتات حرث الأرض وإعدادها, ومواعيد الحصاد والتسويق.
صفحات خالدة من ماضينا التليد, كتبها المؤرخ الكبير (صاموئيل نوح كريمر) بخط يده, وأعادت نشرها المراكز العلمية الدولية مرات عدة.
هذا هو ماضينا المشرق, وهذه هي انجازات أجدادنا وابتكاراتهم قبل أكثر من ستة آلاف عام, فأين نقف نحن اليوم من عجلة التحضر والتمدن والتطور والرقي, وكيف يعيش أحفاد السومريين الآن في مدن (الفجر), و(القلعة), و(سيد خيل), و(الإصلاح), و(الطار), و(البطحة), و(كرمة بني سعيد), و(الفضلية), و(الغراف), و(الشطرة), و(الجبايش), و(الرفاعي), و(الدواية), و(سوق الشيوخ), و(الفهود), و(النصر) إذا ما قورنت مدنهم البائسة بالمدن الأوربية, التي ظهرت بعد مدنهم بمئات القرون ؟. أو إذا ما قورنت بالمدن الخليجية التي ظهرت على سطح الأرض قبل بضعة عقود فقط؟.
ربنا مسنا الضر وأنت أرحم الراحمين