خارطة طريق الأمة بعد طوفان الأقصى
أثبتت حرب غزة أن انتصار الإسلام والمسلمين على قوى الشر أمر ممكن جدا، فنحن أمة التضحية والصبر والثبات والثقة بالله والانتصار في نهاية المطاف بعد تقديم ثمن الجنة بالسخاء الذي يليق بها، والأمة الآن أمام امتحان استخلاص العبر من طوفان الأقصى الذي لم يزلزل الكيان الصهيوني وداعميه التقليديين فحسب بل زلزل نخبة المسلمين والجماهير المسلمة ووضع الجميع أمام واجب إعادة النظر في تشكيل العقل المسلم والواقع السياسي والديني والثقافي من أجل تغيير جذري وإصلاح شامل يطال نظم الحكم والمرجعية الدينية وإعادة صياغة الأمة نفسيا ومجتمعيا، بحيث يجب عليها دخول عصر التحرر الوجداني والسياسي والثقافي والاجتماعي والعودة إلى المرجعية الإسلامية.
والمهمة المستعجلة هي التحرر من أنظمة الاستبداد التي تحمي الكيان الصهيوني، فلولاها لسقط هذا الكيان ولانْتصرتْ غزة، والبداية تكون بإعادة النظر في منزلة الحاكم ووظيفته وحقوقه وواجباته وعلاقته بالمحكومين، وإحياء نظرية العقد، والنصيحة والأمر والنهي بواسطة ما ابتكرته البشرية من وسائل ووسائط، ولا مناص من تحرير الفقه السياسي والإداري الإسلامي من بصمات الاستبداد التي ميّزته منذ قرون، فقه بشري يعطي كل الحقوق للحاكم ويجعل منه إلهًا لا يُسأل عما يفعل بينما يحمّل الأمة – و يسميها رعية أو محكومين – كل الواجبات ويجعل منها همَلا لا وزن له في الحياة السياسية، كل هذا بذريعة درء الفتنة، بينما هو يؤصل للفتنة بعينها عندما يسحب الحقوق من المواطنين ويسلّمها للحاكم من غير توفير أدوات إقامة العدل ومنع الجور...إن الاستبداد شر مطلق، هذا ما يؤكده القرآن الكريم من خلال قصة فرعون وغيره، وما يثبته التاريخ القديم والحديث، وما ينطق به واقعنا المعاصر، والمطلوب إذًا هو العمل على إيجاد الانتخابات الحقيقية الحرة الشفافة، والتمثيل التعددي الفاعل و البرلمان التمثيلي حقيقة والحكومة المعبرة عن إرادة الشعب بعيدا عن الأنماط المعروفة في البلاد العربية منذ الاستقلال، واعتماد الآليات الديمقراطية الشورية التي أثبتت فاعليتها وجدواها في الدول الحرة.، والفرصة مواتية جدا، الحرب على غزة جعلت الأنظمة غير الشرعية تهتز وتبدو على حقيقتها وتفقد ما تبقى لها من مصداقية، وكيف يستسيغ عربي ومسلم سلبيتها هنا وتواطؤها هناك وإدخالها المدد إلى الكيان ومنعه عن غزة كما يحدث علنا منذ طوفان الأقصى؟
وفي السياق نفسه يتحتم على الأمة إعادة بناء مرجعية دينية قوية تتمتع بالقوة والاستقلالية والمصداقية، فقد أعلنت الحرب على غزة إفلاس المرجعيات الدينية الحكومية بعد اصطفافها الصريح مع الخيانات الرسمية ومع العدو ضد المسلمين ورفض وصف ما يجري في غزة بالجهاد واعتباره فتنة يجب عدم الخوض فيها وسحبها من يد الأمة وترك "ولاة الأمور" يتصرفون معها بما يرون هم !!! ماذا بقي من مصداقية لهؤلاء "العلماء"؟ يبررون مولاة الحكام "المسلمين" لليهود والنصارى ومنعهم للمساعدات لشعب مسلم وتواطأهم مع الكيان الصهيوني، ويمنعون حتى الدعاء لغزة فضلا عن إغاثتها؟...هذا هو الإفلاس الذي يقتضي المسارعة إلى التحرر من تحالف رجال الدين مع الطغاة، وإيجاد مرجعية من علماء فحول أتقياء بررة "يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله"، وهم كُثر في مشارق الأرض ومغاربها، يتولون التوجيه والأمر والنهي والاصطفاف مع الأمة ، ومن هؤلاء على سبيل المثال مفتي ليبيا الشيخ الصادق الغرياني الذي أحيى سيرة علماء السلف في المواقف القوية والمجاهرة بنصيحة الحكام وتوجيههم وزجرهم عند الاقتضاء.
أما جمهور الأمة فالواجب هو الانتقال بهم من التديّن العاطفي إلى التديّن الواعي، من التباهي ببناء المساجد وزخرفتها إلى حسن عمارتها ببناء الإنسان بناء أصيلا متكاملا، من الفرح بالنوافل مثل صلاة التراويح وإقبال الناس عليها إلى تبني سلّم الأولويات و مراتب الأحكام، من مسابقات الحفظ الآلي للقرآن والاهتمام بمخارج الحروف (التي تنظمها أنظمة سياسية تزجّ في السجون بكل من يطالب بتطبيق أحكام القرآن ) إلى مستوى الفهم والوعي والعمل به واتخاذه دستورا للحياة ودليلا للأمة في جميع المجالات... نريد التدين الذي يغير التاريخ ويؤثر في الأحداث ويعيد الأمة إلى المنهج الرباني ومركز الشهود على الناس، التديّن الذي يجعلنا أئمة ويجعلنا الوارثين.
كل هذا يقتضي أن ننتقل من البرهنة الوعظية أننا على حق إلى صياغة البرامج العملية القادرة على إحقاق ذلك الحق ونكسر معادلة هوان أهل الحق وتمكّن أهل الباطل.
وسوم: العدد 1074