بسط المقال فيمن يركبون الضلال ويبتغون حليّة الحرام وتحريم الحلال
أول ما نبدأ به هذا البسط وقفة مع نبوءة من نبوءات رسول الله صلى الله عليه وسلم التي جاء فيها : " لتُنقضّن عُرى الإسلام عروة عروة ، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها ، وأوّلهن نقضا الحكم ، وآخرهن الصلاة " ، ففي هذا الحديث الشريف الذي صح عند أئمة الحديث الثقات نبوءة متعلقة بآخر الزمان ، أو بزمن قرب نهاية العالم ، وقيام الساعة . وقد قال شرّاحه أن المقصود بعرى الإسلام هو تعاليمه عبادات ومعاملات ، وقد شبهت بالعرى ، وهذه الأخيرة حقيقة هي مقابض الدلاء أوغيرها من قفف أو أوعية أو مقاطف ، ومجازا هي ما يتمسك أو يعتصم به اتقاء السقوط أو التردي ، وقد ورد في الذكر الحكيم : (( لا إكراه في الدين قد تبيّن الرشد من الغيّ فمن يكفر بالطاغوت وبؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم )) . وانفصام العرى حقيقة هو انصرامها، ومجازا هو ضياع الدين كما جاء في قول الله تعالى. وأول ما يُنتقض من عرى الإسلام الحكم أي القضاء ، بحيث لا يقضي الناس بما أمر الله عز وجل ، وبما أمر رسوله صلى الله عليه وسلم ، ثم يطال النقض بعد ذلك باقي عرى الدين عروة عروة ، ويكون آخر ما يُنقض منها الصلاة التي جعلها الله تعالى كتابا موقوتا، تؤدى ليل نهار .
ولو استحضرنا واقع المسلمين اليوم، لوقفنا عن كثب على انتقاض عدد من عرى الإسلام خصوصا الحكم أو القضاء، إذ لم يعد من بأيديهم القضاء يقضون بما شرع الله تعالى بما ورد في الذكر الحكيم ، والسنة المشرفة ،علما بأنه جل وعلا يصف من لا يحكمون بما أنزل مرة بالكفر ، أخرى بالظلم ، وثالثة بالفسوق ، وإن شئنا قلنا أنهم كفرة ، وظلمة ، وفسقة في نفس الوقت، مصداقا لقوله تعالى : (( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون )) ، وقوله : (( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون )) ، وقوله : (( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون )) . هي أوصاف وصف بها سبحانه وتعالى أهل الكتاب يهود ونصارى ممن لم يحكموا بما أنزل عليهم ، وجعل في ذلك عبرة للمسلمين إن هم ساروا على نهجهم . ولقد عطلت في زماننا هذا وقبله بقليل بعض الحدود التي فرضها الله تعالى في محكم التنزيل كحد القتل العمد ، وحد السرقة ، وحد الزنا ، وحد القذف ، وحد السُكر، وسكت عن تعطيلها أهل بعض أهل العلم، وأهل الحل والعقد ، وحلّت محلها أحكام وضعية مقتبسة من شرائع غيرنا ممن ليسوا على ديننا ، وذلك بحكم تبعيتنا لهم ، وبحكم ما يمارسونه عليها من ضغوط ، وما يفرضونه علينا من وصاية منذ أن احتلوا أراضي المسلمين بعد سقوط آخر خلافة إسلامية . ولا شك أن هذا التعطيل هو ما أغرى بعض المستلبين بالمرجعية الغربية العلمانية من بني جلدتنا ، وهم بمثابة طوابير خامسة بثّت بيننا بالمطالبة بتعطيل غيرها من أحكام الشريعة الإسلامية بغرض طمس معالم هويتنا الإسلامية تحت ذريعة تقادمها ، وعدم مسايرتها للعصر.
ولقد جُنّدت هذه الشرذمة أو لنقل هذا اللوبي في الآوانة الأخيرة ببلادنا من أجل الإجهاز على أحكام إسلامية خاصة بأحوالنا الشخصية ، وذلك بمناسبة إعادة النظر أو إصلاح مدونة الأسرة . ولقد كثر لغطهم إعلاميا من أجل الإيهام بأنهم يمثلون سواد الرأي العام الوطني ، والحقيقة أنهم مجرد شرذمة تعزف على أوتار غريزة الجنس لدى الشباب من أجل جعلها مستباحة، وذلك فيما صار يعرف بالعلاقة الجنسية الرضائية ، وهي الزنا ، والعلاقة الجنسية المثلية ، وهي فاحشة قوم لوط ، وقصدهم من وراء ذلك تعطيل تحريمها كما نص على ذلك شرع الله عز وجل كتابا وسنة ،مقلدين بذلك القوانين الوضعية في البلاد العلمانية ، وبهذا أجازوا لأنفسهم تحلّة الحرام .
وإلى جانب المطالبة بهذا التعطيل الصارخ ، تحاول تلك الشرذمة تغيير بعض أنصبة الإرث كما حدده شرع الله عز وجل ، وذلك بأوهى الذرائع ، وعلى رأسها ذريعة ما يسمونه مسايرة العصر ، وتقادم أحكام الشرع أو تجاوز الزمن لها ، والتزام ما يسمونه بالمعاهدات والمواثيق الدولية، وهي في حقيقتها ومرجعيتها علمانية ، وقد صارت تنزل عندهم منزلة الشرع الإسلامي كالتسوية بين الإخوة والأخوات في الأنصبة ، وتعطيل التعصيب ، والتوسع في أطراف المستفيدين من الوصية ... وهلم جرا ، وبهذا أجازوا لأنفسهم تحريم الحلال . ولقد انبرى بعضهم عن جهل إلى تأويلات ضالة تستهدف نصوص الكتاب والسنة ، بعدما سولت لهم أنفسهم التطاول على أعلام التفسير، والفقه، والحديث قدماء ومحدثين ، و قد تجاسروا عليهم بما لا يليق بمقامهم ووصفوهم بنعوت وصفات قدحية ، وهو ما حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : " إن الله لا ينقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يترك عالما ،اتخذ الناس رؤوسا جهّالا ، فسئلوا ، فأفتوا بغير، فضلّوا ، وأضلوا " . ولا شك أنه لا زال فينا علماء ينافحون عن بيض الإسلام ، ويذودون عن شرع الله عز وجل ، ولكن إذا ما هُمشّوا ، واستغنى عن علمهم الناس ، فإنهم حينئذ يصبحون في حكم أو عداد المقبوضين ، الشيء الذي يفسح المجال واسعا للجهّال ، ولضلالهم ، وتضليلهم .
وما دامت نسخة مدونة الأسرة المعدلة لم تخرج بعد إلى الوجود، فقد يكون من الأفيد لأهل العلم ألا يهدروا وقتا أو جهدا في مجادلة أهل الضلال ، وأن يتوجهوا بالنصح إلى من يهمهم الأمر ممن انتدبوا لمراجعة المدونة ، وتذكيرهم بأن إمارة المؤمنين قد حسمت في أمر الحلال والحرام ،عملا بقول الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم : " الدين النصيحة فقالوا : لمن ؟ فقال: لله ، ولرسوله ، ولكتابه، للأئمة المسلمين ،وعامتهم " هكذا، بهذا الترتيب ، وهذا التسلسل ، وأهل العلم أدرى بكيفيات النصح للأئمة وللعامة . وإذا كان المتجاسرون على شرع الله تعالى من الضُّلال فإنهم ، في حكم العامة غير أنهم مصرون على ضلالهم ، وقد لا ينفعهم معهم جدل أو نصح ، ويكون الأفيد حينئذ هو التوجه مباشرة إلى أئمتهم بالنصح لحملهم على الاستقامة على صراط الله المستقيم ، ومنعهم من تضليل العامة بضلالهم قياما بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، التي بها تبرأ ذمم أهل العلم عند الله عز وجل.
وفي الأخير نسأل المولى جل وعلا أن يهدي الضالين ، ويرد بهم ردا جميلا عن ضلالهم ، ويصون العامة منه ، ويجنب البلاد والعباد الفتنة ، ويحفظ دينه من كل ما ظهر وما بطن من المكائد والمؤامرات.
وسوم: العدد 1076