يَعِدونَكم ويمنونكم وما يعدونكم إلا غرورا!!!
جرت العادة أو لنقل توخِّيا للدقة، أُجرِيت علينا عادة قياس تقدم الأمم وحضاراتها بالمنجزات والمكتسبات المادية، مما جعَلنا نحصر عناصر تقدمنا في مدى اكتسابنا للأشياء حسب تعبير مالك بن نبي، إن على مستوى الأفراد، بحيث ينحصر التقدم في بعض المظاهر المادية، من قبيل السيارة الفاخرة والفيلا والثياب الثمينة...أو على مستوى الدول بحيث البلد المتقدم هو ذلك البلد الذي يمتلك مصانع ومطارات وطرق سيارة وجامعات و... ولعل أهم ما يترتب عن هذا التصور الاعتيادي عندنا، وعند غيرنا من البلاد المُنبهِرِ أهلها بالتقدم المادي للغرب والشرق على السواء، ذلك الاستلاب المُعاين لدى جل الشرائح المجتمعية من مختلف المستويات، فقراء وأغنياء حكاما ومحكومين...والذي يتجسد في المسارعة في الارتماء في أحضان هذا الغرب، أو ذاك الشرق، دون تَبَيُّن تبعات هذا الارتماء، أو لنقل تبعات هذه الموالاة باستعمال التعبير القرآني، مع العلم أن الواقع يُبرهِن يوميا على حضور جميع خصال المنافق الخالص في تعامل الغرب المُشرِك والشرق الملحد مع كل من يسارع في موالاتهم، إذا لم يكن على عقيدتهم، والتي حددها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: "أربع من كنَّ فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خَصلةٌ منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدَّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصَم فجر". ولا شك أن مصير من يَتَوَلَّ من كانت هذه هي صفاته، لن يكون سوى الخسران المبين، على غرار مصير الذين يتخذون الشيطان وليا، مصداقا لقول الله عز وجل في سورة النساء:﴿ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120) ﴾. ذلك أنه على غرار الشيطان، يَعِدون ويُمنُّون الذين يتولونهم، وما يعِدُونهم إلا غرورا.
وسوف لن نجانب الصواب إذا قلنا بأن أعداء الإسلام من الشرق والغرب على السواء، يسلكون مسلك الشيطان في وعد وتَمْنِيَة الذين يوالونهم من المُدْرَجين في خانة المسلمين، ونورد على سبيل المثال لا الحصر، وعد الفلسطينيين بإنشاء دولة على حدود 67 على الرغم من جور هذا الوعد حتى وإن تحقق، والوعد بجلب الديموقراطية والحرية لكل من العراق، وسوريا، واليمن، ومصر، والسودان، وليبيا، وتونس...، ووعد الكيان الغاصب بالاعتراف بمغربية الصحراء، ووعد الولايات المتحدة بفتح قنصلية بمدينة الداخلة بالصحراء المغربية بعد عملية التطبيع العلني التي جَرَّت على المغرب مجموعة من الانتقادات من الداخل والخارج، بالإضافة إلى تقديم فرنسا رِجْلا وتأخير أخرى دون الاعتراف الصريح بمغربية الصحراء... وكل هذه الوعود وغيرها الكثير لا تعدو أن تكون ﴿ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا﴾ النور الآية 39.
وإذا كانت أسباب استمرار موالاة المسلمين لأعداء دينهم من الكفار والملحدين، ومَن على شاكلتهم من الذين "يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ" متعددة، فالراجح أن جذورها تَكمُن في مرض القلوب الذي يتجسد كما أشرت إلى ذلك سابقا، في الانهزام النفسي وضُعف الشخصية، الذي يؤدي إلى توقُّع الأذى والشر دون استنفاذ الوسع للوقاية منهما، مما يؤدي إلى اتخاذ قرار المسارعة فيهم خشية أن تصيبهم دائرة. ولعل إعمال قاعدة "العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب" في شأن الآية 52 من سورة المائدة حيث يقول عز من قائل:﴿ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ ﴾ يبرهن بما لا يترك مجالا للشك بأن قرار المسارعة في المحاربين للإسلام مآله الندم والخسران المبين.
وبناء على ما سبق، واعتبارا لكون علاقة البشر ببعضهم البعض بصفة عامة، وعلاقة المسلمين بغيرهم من الأمم بصفة خاصة، تفرضها ضرورات الحياة، فلا بد لهذه العلاقة أن تنتظم في إطار التبادل المتكامل والمتوازن للمصالح والموارد، إن أريد لها الاستمرار بما يحقق السِّلم والتسامح الفعلي بين الشعوب والأمم. وبما أن قوى الاستكبار لا تؤمن سوى باستضعاف الشعوب، واستغلال خيراتها المادية والمعنوية، فإن الحل الوحيد والأوحد أمام الأمم المستضعفة، وعلى رأسها الأمة المسلمة، هو العمل الجاد على استرجاع ثقة أبنائها بأنفسهم، بدءا بالزهد في المسارعة في أعداء الدين، مرورا باعتماد النِّدِّية في التعامل معهم، وانتهاء باستقلال القرار في اختيار الشركاء الذين يُبدون قدرا كافيا من الموثوقية والمصداقية، لربط علاقات تكاملية ومتوازنة. ولعلنا نجد في طبيعة العلاقات المغربية الفرنسية المبنية على المسارعة من قبل المغاربة، والنفاق السياسي والوعود الكاذبة من قبل فرنسا، نموذجا يتعين الحسم في معالجته. ولعل تصريح جلالة الملك بقوله: " إن ملف الصحراء المغربية هو النظارة التي ينظر منها المغرب إلى العالم، وهو المعيار الواضح والبسيط الذي يقيس صدق الصداقات ونجاعة الشراكات" كان يروم هذه المعالجة، التي تنبني على أساس الاعتراف الصريح بصحرائنا، وإلا فإن الخاسر الأكبر من توتر هذه العلاقات هو فرنسا. غير أننا فوجئنا، وقبل أن يتم الالتزام بهذا المعيار، بتتابع زيارات عدد من المسؤولين الفرنسيين للمغرب، وتطبيل وإشادة عدد من المنابر العلمانية التوجه، بعودة العلاقات مع فرنسا إلى سابق عهدها، إن لم أقل أكثر مسارعةً فيها من ذي قبل، وكأن النظارة التي حددها جلالته قد كُسرت، لتبقى وعود فرنسا بخصوص موقفها من الصحراء، من قبيل ما يعد الشيطان به أوليائه، والشيطان لا يعد إلا غُرورا.
إن التاريخ علَّمنا أنه كلما سارع المسلمون في أعدائهم، إلا وكانت النتيجة هي التشرذم والتطاحن وكسر شوكتهم، في المقابل يمدنا نفس التاريخ بنماذج من الذين أعدوا العدة، واستنفذوا الوسع في إطار الإيمان بصدقِ ونفاذِ وعد الله بنصر عباده المخلصين، ولنا مثال حي في أهل غزة الذين قلبوا موازين القوى المادية والمعنوية على الخصوص، بحيث تمكنت قلة من المجاهدين الصادقين من خلخلة حسابات كل الذين كانوا يسارعون في الصهاينة، وحُماتهم من الغرب والشرق، مما يؤكد على أن الثبات على المبدأ والتمسك بالثوابت هو الأصل، وأن النصر لا يكون بالمكتسبات المادية على أهميتها، وإنما بالإيمان بالقضية وبالتضحية من أجلها مع التوكل على الله في إعداد العدة واستنفاذ الأسباب.
في الأخير أُذَكِّر أن التاريخ يشهد أن رُقِي الحضارات، وتقدم الأمم لم يكن يوما بالحرص على اقتناء الأشياء، خاصة عندما يكون مصدرها من العدو، وإنما بالاستثمار في تكوين أجيال قادرين على رفع التحدي وإبراز خصوصياتهم، ومستعدين لاسترخاص الدنيا وملذاتها في سبيل حفظ ثوابتهم ومُثُلهم العليا. وبداية الطريق لن تكون بالنسبة للمنتسبين للإسلام سوى بالتوكل على الله والإيمان بأن وعود أعدائهم لن تكون إلا غرورا.
وسوم: العدد 1080