أصوات وبنادق

جواد بولس

بحدة أوضح من الماضي، عكست معارك الإنتخابات التي جرت في القرى والبلدات العربية في إسرائيل هزلية المشهد وتراجيديته في آن واحد.

بالخلاصة، كانت تلك تجربةً عبثيةً افتقرت إليها مسارحنا فعوّضتنا عنها الحياة بفصول ولا في الخيال .الذروة تجلّت في "القفلة"؛ عندما قررت قيادة جبهة الناصرة التوجه إلى المحكمة بطلب لاستصدار أمر يمنع مأمور الانتخابات من الإعلان عن النتيجة الرسمية وذلك لوقوع خلل، وفقًا لما قدّم من إدّعاءات، في فرز صندوق احتوى على ما أسمي" أصوات الجنود".

هاجت الدنيا وماجت. لم يتخلّف أحد من توجيه حرابه والانقضاض على الجبهة. كثيرون ممّن انضموا لهذه الجوقة كانوا من المزايدين والانتهازيين.

من الواضح أن لجبهة الناصرة حق، كما لكل طرف مدّعٍ بحق ضائع، أن تحاول تحصيل حقها وتأمينه حتى إذا استدعى الأمر التوجه إلى القضاء الإسرائيلي ولكن تبقى الحكمة بإخضاع مجمل القرارات، لا سيّما التكتيكية منها، إلى طائل الربح والخسارة في أبعادها الوطنية العامة والاستراتيجية.

محاولة بعض الناطقين باسم الجبهة تبرير تلك الخطوة بكونها تكتيكًا استهدف كسب الوقت للوقوف واستكشاف بواطن الخطأ والضياع، كان إدّعاءً واهيًا وليس على قدر الصدمة والخيبة. وهو، بمقاسات الربح والخسارة، سبّب خسائر فادحة للجبهة الأم تعدّت أرباح وخسائر جبهة الناصرة المفقودة والمدّعى بها، علاوة على ما تركه ذلك من زعزعة وبلبلة في الموقف الوطني العام.

بالمقابل فإن ما صرّح به النائب حنا سويد بأن جميع القوائم والرؤساء اعتمدت وتعتمد على أصوات جنود ورجال أمن ولذلك لا تنفرد الناصرة بهذه المسألة هو إدّعاء ذو أبعاد مركّبة يستوجب التوقف عنده.

لقد أصاب النائب سويد كبد الحقيقة والواقع. ففي كثير من البلدات والقرى العربية في إسرائيل يشارك جنود ورجال شرطة وأمن وحرّاس مصلحة السجون ورجال حرس الحدود وغيرهم في الانتخابات. بعضهم يشارك كمصوّتين وبعضهم كمرشحين. في جميع الأحوال يمارس جميع هؤلاء أدوارهم كأفراد متساويين بالحقوق والواجبات مع باقي أهل القرى والمدن ويقومون بذلك بانسجام كامل مع قوانين السوق وتفاعلات اللعبة في كل موقع وموقع. يتحالفون من خلال أطرهم العائلية أو "الحزبية" أو الطائفية في قوائم محلية وأحيانًا تنافس هذه القوائم باسم حزب وطني وحركة قومية وتتشارك مع آخرين لدعم هذا الرئيس أو لإنجاح تلك القائمة. لكثرتها، لا مجال لوضع جدول بأسماء تلك القوائم والشخصيات التي شاركت في قرى الجليل والمثلث والكرمل والنقب وفي بعض المواقع مثلت حركات وأحزابًا شارك قادتها بالهجوم على جبهة الناصرة.

القضية تكمن بما آلت إليه أحوال مجتمعاتنا العربية التي ترزح تحت عبء هذه المستجدات وبعضها أطلقتُ عليه في أكثر من مقالة صفة "الديليما/ الورطات" التي تبحث عن حلول وطنية ومواقف.

قبل أن أشير إلى ما قلته عن تلك المستجدات بالماضي ولم يحظ بأي التفاتة من قادة الجماهير العربية وأحزابها خاصةً ممّن أطلقوا سهامهم على قادة جبهة الناصرة، قبل ذلك، أود أن أقول للنائب سويد: بما أنك قدّمت إدّعاءً واقعيًا صحيحًا وبما أن بعض الرؤساء والقوائم المنافسة في القرى والبلدات العربية تُنتخب وتنتصر بأصوات جنود ورجالات أمن، على تفرعاته، كان من المفترض أن تبلور الجبهة الديمقراطية موقفًا رياديًا سبّاقًا إزاء هذه المسألة ومستجدات أخرى كثيرة تتخبط بها مجتمعاتنا. لقد دفعت وستدفع الجبهة ثمن عدم "تميّزها" الوطني عن باقي القيادات وما جرى في الناصرة هو أكبر دليل على ضياع البوصلة وإتاحة فرصة لكل "حلق وفم" أن يفتح نيرانه على الجبهة حتى وإن فعل ذلك بعضهم بمسدسه المرخص إسرائيليًا أو كلاشينكوفه. "مثلي مثلكم" ليس بحجة ودفاع مقبولين ممّن يُنتظر منه أن يبقى قائد هذه الجماهير ومخلّصها في زمن الورطات والهزائم.

القضية أكبر من حفنة أوراق ضائعة في هذا الصندوق أو ذاك؛ كانت القضية وما زالت، مَن يقرر لهذه الجماهير ماذا؟ مَن يفتي لها وما تعريف العيب؟ مَن يجيز ومَن يمنع؟ وما تعريف الكبيرة؟ القضية تكمن في ما طرحته شباك حياتنا في هذه الدولة من تشوّهات و"ورطات". حادثة "أصوات الجنود" عرّت واقعًا تعيشه مجتمعاتنا ولم يحظ برعاية ملائمة من قبل مَن تصرّف على أنه قائد لهذه الجماهير.

"هل عمل العربي منّا في وزارة الشرطة متاح ومسموح يا وطن؟ هل نطالب بأن يكون نائب قائد الشرطة العام عربيًا منّا؟ وإن كان ذلك محظورًا وطنيًا فهل نطالب أن يكون قائد المنطقة الشمالية عربيًا منّا؟ هل نقبل أن يكون قائد شرطة مكافحة المخدرات أو قائد شرطة السير عربيًا منا؟ هل قيادتنا تملك موقفًا إزاء كل ذلك؟ وماذا يقول الشيخ والقائد والوطن لجاره السائل: "هل أنا مخطئ أو مَعيب أو خائن إن من أجل عيشي لبست الكحلي وصرت شرطيًا؟!

ماذا نقول لآلاف السواعد التي تخدم في مصلحة سجون الدولة. من أصغر السجّانين إلى أعلى المراتب والسلطة والنفوذ. هل صمت الفراشات حل وموقف؟ وكيف لأولئك أن لا يفهموا صمت الوطن موافقة ورضا؟".

هكذا تساءلت قبل عام.  كل القيادات طنّشت وتهرّبت وبضمنها مَن شارك في وليمة الناصرة التي فيها قلت في ذلك المقال: "فأين أيام كانت الناصرة تسطّر بالأحمر ربيع بلادي الأخضر؟ وهذه الناصرة اليوم تزوّدنا بكل أسباب الفرح وأسباب الترح كذلك".

أين هي تلك الأيام؟ درب جماهير هذه البلاد ما زال مليئا بالحفر وجيوش العاطلين عن عمل وطني والانتهازيين والمزايدين تنتظر على حافة البئر. من يقرر ماذا؟ فهل علينا أن ننتظر فصلًا قادمًا من مسرحية المزايدة والسقوط.