سَيَقُولُ ٱلسُّفَهَآءُ مِنَ ٱلنَّاسِ

منذ آماد السنين تنكب يهود طريق الهداية وناصبوا أنبيائهم العداء الكاشح، وقد رسم القرآن الكريم لتلكمُ السمفونية اليهودية تصاوير متعددة بتصريفات بيانية مشرقة: " ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ، وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ". وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عبدالصَّمَدِ، حَدَّثَنَا أَبَانُ، حَدَّثَنَا عَاصِمٌ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عبداللَّهِ يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ:  "أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلٌ قَتَلَهُ نَبِيٌّ أَوْ قَتَلَ نَبِيًّا وَإِمَامُ ضَلَالَةٍ وَمُمَثِّلٌ مِنَ الْمُمَثِّلِينَ"؛ والممثلون هم المصورون النحاتون.

   والسؤال هنا هل ثمة قتل للأنبياء بحق وآخر بغير حق؟ والجواب: إن الإتيان بالباطل قد يكون حقًا لأن الآتي به اعتقده حقًا لشبهة وقعت في قلبه وقد يأتي به مع علمه بكونه باطلًا، ولا شك أن الثاني أقبح فقوله : "وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ الحق "أي أنهم قتلوهم من غير أن كان ذلك القتل حقًا في اعتقادهم وخيالهم بل كانوا عالمين بقبحه ومع ذلك فقد فعلوه. وإن هذا التكرير لأجل التأكيد كقوله تعالى:  "وَمَن يَدْعُ مَعَ الله إِلَهَا ءاخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ" [المؤمنون: 117] ، ويستحيل أن يكون لمدعي الإله الثاني برهان. إن الله تعالى لو ذمهم على مجرد القتل لقالوا: أليس أن الله يقتلهم ولكنه تعالى قال: القتل الصادر من الله قتل بحق ومن غير الله قتل بغير حق.

   أما وصفهم بالسفهاء فهذا جاء بعد تحويل القبلة فقد تساءل يهود المدينة وغيرهم ممن يصغون إلى أراجيفهم: لمَ حوَّل المسلمون جهة صلاتهم إلى البيت الحرام! " سيقول الجهال وضعاف العقول من اليهود وأمثالهم، في سخرية واعتراض: ما الذي صرف هؤلاء المسلمين عن قبلتهم التي كانوا يُصَلُّون إلى جهتها أول الإسلام؛ وهي بيت المقدس؛ قل لهم -أيها الرسول-: المشرق والمغرب وما بينهما ملك لله، فليست جهة من الجهات خارجة عن ملكه، يهدي مَن يشاء من عباده إلى طريق الهداية القويم. وفي هذا إشعار بأن الشأن كله لله في امتثال أوامره، فحيثما وَجَّهَنا تَوَجَّهْنا"/ التفسير الميسر.

   لذلك جاءت الآية 145 من سورة البقرة ترد على استهزائهم: "  ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين ". 

   واليوم؛ إذ تدور معركة فاصلة بين الحق والباطل، بين يهود ومن والاهم وسكت عن أذاهم وبين أهل فلسطين الصامدين الصادقين، فإن هذه الآيات التي وردت أعلاه حري بها أن تعيها أذنٌ واعيةٌ؛ لأن الحرب اليوم دينية بامتياز، وها هم الصهاينة يحشرون اليهود "الحريديم" المتدينين لأول مرة في أتون الحرب الطاحنة المجنونة، وقد مضى عليها تسعة شهور، ولا طائل منها لصالحهم؛ إذ لم تحقق شطر هدف واحد من أهدافها المعلنة ... أو المضمرة!

   والخلاصة: إن من يصغي إلى وعود يهود أو أهل الكتاب أو المشركين فهو يحرث في البحر؛ ليستنبت سلاماً أجوف ميْتاً: " لَتُبْلَوُنَّ فِىٓ أَمْوَٰلِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُوٓاْ أَذًى كَثِيرًا ۚ وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ ٱلْأُمُورِ".

وقد جاء في تفسير الوسيط لطنطاوي في هذه الآية: " بين - سبحانه - للمؤمنين أنهم سيتعرضون في المستقبل للمحن والآلام كما تعرضوا لذلك في أيامهم الماضية ، وأن من الواجب عليهم أن يتقبلوا ذلك بعزيمة صادقة ، وصبر جميل فقال - تعالى :  لَتُبْلَوُنَّ في أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الذين أشركوا أَذًى كَثِيراً .

   وقوله { لَتُبْلَوُنَّ } جواب قسم محذوف أي : والله لتبلون أي لتختبرن . والمراد لتعاملن معاملة المختبر والممتحن ليظهر ما عندكم من الثبات على الحق ، ومن التمسك بمكارم الأخلاق ، فإن المصائب محك الرجال .وإنما أخبرهم - سبحانه - بما سيقع لهم من بلاء ، ليوطنوا أنفسهم على احتماله عند وقوعه ، وليستعدوا لتلقيه من غير فزع أو جزع ، فإن الشدة المتوقعة يسهل احتمالها ، أما الشدة التي تقع من غير توقع فإنها يصعب احتمالها .والمعنى : لتبلون - أيها المؤمنون - ولتختبرن { في أَمْوَالِكُمْ } بما يصيبها من الآفات ، وبما تطالبون به من إنفاق في سبيل إعلاء كلمة الله ، ولتختبرن أيضاً في { أَنْفُسِكُمْ } بسبب ما يصيبكم من جراح وآلام من قبل أعدائكم ، وبسبب ما تتعرضون له من حروب ومتاعب وشدائد ، وفضلا عن ذلك فإنكم { وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ } وهم اليهود والنصارى { وَمِنَ الذين أشركوا } وهم كفار العرب ، لتسمعن من هؤلاء جميعا { أَذًى كَثِيراً } كالطعن في دينكم ، والاستهزاء بعقيدتكم ، والسخرية من شريعتكم والاستخفاف بالتعاليم التي أتاكم بها نبيكم ، والتفنن فيما يضركم .وقد رتب - سبحانه - ما يصيب المؤمنين ترتيبا تدريجيا ، فابتدأ بأدنى ألوان البلاء وهو الإصابة فى المال ، فإنها مع شدتها وقسوتها على الإنسان إلا أنها أهون من الإصابة في النفس لأنها أغلى من المال ، ثم ختم ألوان الابتلاء ببيان الدرجة العليا منه وهى التي تختص بالإصابة في الدين ، وقد عبر عنها بقوله :  وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الذين أشركوا أَذًى كَثِيراً .وإنما كانت الإصابة في الدين أعلى أنواع البلاء ، لأن المؤمن الصادق يهون عليه ماله ، وتهون عليه نفسه ، ولكنه لا يهون عليه دينه ، ويسهل عليه أن يتحمل الأذى في ماله ونفسه ولكن ليس من السهل عليه أن يؤذى في دينه . . .ولقد كان أبو بكر الصديق مشهورا بلينه ورفقه . ولكنه مع ذلك - لقوة إيمانه - لم يحتمل من  " فنحاص " اليهودي أن يصف الخالق - عز وجل - بأنه فقير ، فما كان من الصديق إلا أن شجَّ وجه فنحاص عندما قال ذلك القول الباطل .وقد جمع - سبحانه - بين أهل الكتاب وبين المشركين فى عداوتهم وإيذائهم للمؤمنين ، للإشعار بأن الكفر ملة واحدة ، وأن العالم بالكتاب والجاهل به يستويان فى معاداتهم للحق ، لأن العناد إذا استولى على القلوب زاد الجاهلين جهلا وحمقا ، وزاد العالمين حقداً وحسداً .

ثم أرشد - سبحانه - المؤمنين إلى العلاج الذى يعين على التغلب على هذا البلاء فقال : { وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذلك مِنْ عَزْمِ الأمور .أي : وإن تصبروا على تلك الشدائد ، وتقابلوها يضبط النفس ، وقوة الاحتمال . { وَتَتَّقُواْ } الله في كل ما أمركم به ونهاكم عنه ، تنالوا رضاه - سبحانه - وتنجوا من كيد أعدائكم .والإشارة في قوله { فَإِنَّ ذلك مِنْ عَزْمِ الأمور } تعود إلى المذكور ضمنا من الصبر والتقوى ، أي فإن صبركم وتقواكم من الأمور التي يجب أن يسير عليها كل عاقل . لأنها تؤدى إلى النجاح والظفر .

وقوله { فَإِنَّ ذلك مِنْ عَزْمِ الأمور } دليل على جواب الشرط .والتقدير : وإن تصبروا وتتقوا تنالوا ثواب أهل العزم فإن ذلك من عزم الأمور .فالآية الكريمة استئناف مسوق لإيقاظ المؤمنين ، وتنبيههم إلى سنة من سنن الحياة ، وهى أن أهل الحق لا بد من أن يتعرضوا للابتلاء والامتحان ، فعليهم أن يوطنوا أنفسهم على تحمل كل ذلك ، لأن ضعفاء العزيمة ليسوا أهلا لبلوغ النصر .ولقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن قوة الإيمان وشدة البلاء متلازمان ، فقد روى الترمذي عن مصعب بن سعد عن أبيه قال : قلت يا رسول الله ، أي الناس أشد بلاءً؟ قال : الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل . فيُبتلى الرجل على حسب دينه . فإن كان دينه صلبا اشتد بلاؤه ، وإن كان في دينه رقة ابتُلي على حسب دينه ، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشى على الأرض ما عليه خطيئة "

"لَتُبْلَوُنَّ": هل في ذلك قسمٌ لذي حِجْرٍ؟ وهل يشابه ما جاءت مناسبة تلكم الآية لحالنا المعاشة اليوم في صراعنا مع يهود؟! وهل ثمة بلاء سيأتينا أكثر من ذلكم الذي يصدره إلينا يهود؛ سفهاء الناس عبر الأزمان؟!!

وسوم: العدد 1085