خطة تسديد التبليغ وقاعدة "درء المفاسد مقدم على جلب المصالح"؟
مما لا شك فيه أن عملية التقييم الذاتي، أو محاسبة النفس باستعمال المصطلح الشرعي، مطلوبة بل وضرورية، إن على مستوى الأفراد أو الجماعات، وذلك بغية قياس المسافة الفاصلة بين مجموعة من المبادئ والقيم كما هي منصوص عليها في المرجعية أو المرجعيات المُحتكم إليها، وبين الكيفية التي تُمارس بها في الواقع العملي لذلك الفرد أو تلك الجماعة، ليتم العمل بعد ذلك بالارتقاء بتلك الكيفية إلى المستوى الأمثل. وإذا كانت عملية التقييم هذه مهمة بالنسبة للجميع، وبالنسبة لمختلف المجالات الحياتية بغض النظر عن طبيعة المبادئ والمرجعيات المستند إليها من قبل هذا أو ذاك، فإنها تصبح حيوية بالنسبة للمنتسبين للدين الإسلامي، لكونها من أهم الوسائل التي تمكنهم من ملاءمة تَدَيُّنهم قدر المستطاع مع أوامر ونواهي الشريعة الإسلامية المجسدة في الكتاب والسنة، وذلك بهدف تحصيل التقوى باعتبارها مناط جميع الأعمال الصالحة، عملا بقوله تعالى في الآية 16 من سورة التغابن ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾.
ونظرا لمجموعة من الحيثيات التي تَدَخَّلت في تَدَيُّن المسلمين عامة، وفي تدين المغاربة على وجه الخصوص، والتي لعب ويلعب فيها الاستعمار دورا أساسيا، فإننا غالبا ما نلاحظ مجموعة من الانحرافات التي توحي بوجود تباين بين الدين كما هو منصوص عليه في الكتاب والسنة، وبين التدين الممارس عمليا، إن على المستوى الشعبي أو على المستوى الرسمي، في العديد من البلدان التي يُعتبر الإسلام دينها الرسمي، ومع ذلك، وفي غياب أية دراسة جادة في الموضوع، تبقى هذه الملاحظات عبارة عن انطباعات لا يمكن تعميمها ولا الجزم بها، خاصة إذا علمنا أن هناك من يتعمد النفخ في انحرافات بعض المتدينين مهما صغرت، ومحاولة تعميمها وتحميل تبعاتها للإسلام نفسه، بهدف الانتقاص من أحكامه، واغتنام الفرص لنقضها وإحلال الشرائع البشرية محلها.
ومما لا شك فيه، أن للخطباء والوعاظ دور أساسي في توعية عموم الناس بأهمية محاسبة أنفسهم، والعمل على تجاوز تلك النقائص والشوائب التي تتخلل ممارساتهم الحياتية، والتي غالبا ما تكون لها انعكاسات سلبية عليهم وعلى المجتمع ككل، إضافة إلى تمكين المتربصين بالإسلام من فرصة تحميله أخطاء المنتسبين إليه، إلا أن الملاحظ هو أن مجال تأثيرهم أصبح يتقلص مع الوقت بانحصاره أساسا في خطب الجمعة وفي بعض الدروس التي تقام بمناسبة شهر رمضان، والتي تم تقليص مددها إلى أدنى وقت ممكن، مع العلم أن دور المسجد في الأيام العادية أصبح ينحصر في أداء الصلوات الخمس لا غير.
وإذا علمنا أن فئة المستهدفين من هذه الخطب والدروس على علات عدد كبير منها، تنحصر في مجموعة من الذين يرتادون المساجد، والذين من المفروض أن تتوفر لديهم أبجديات محاسبة النفس، فإن السيد وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية يُقر بوجود فجوة بين دينهم وتدينهم، مُرجعا ذلك إلى عدم سداد عملية التبليغ التي يقوم بها الخطباء والوعاظ، الذي لولاه لما هرع لتنزيل خطة تسديد التبليغ، التي تهدف على ما يبدو إلى التقليص من هذه الفجوة. ودون الدخول في تفاصيل الخطة، يمكن التماهي مع الطرح القائل بأنها تروم معالجة بعض النقائص والتجاوزات التي يقع فيها بعض الخطباء، من خلال توحيد خطبة الجمعة، تفاديا للحرج الناتج عن توقيف البعض منهم لأسباب قد لا تكون مفهومة لفئات كثيرة من المجتمع المغربي، وإذا علمنا أن توحيد الخطبة لا يهم سوى عينة قليلة من المساجد ولمدة محدودة حسب ما ورد في تصريح السيد الوزير، فإن السؤال المنطقي الذي يطرح نفسه هو كيفية تبليغ الدين لباقي الفئات المجتمعية؟ على افتراض أنه سيتم تعميم توحيد الخطبة على جميع مساجد المملكة وطول السنة، وأن الخطبة الموحدة قد لعبت دورها السحري في عملية التبليغ!!! ومما لا شك في أن الجميع يعلم، وعلى رأسهم السيد وزير الأوقاف بأن هناك فئات عديدة ليس لها ارتباط مباشر بالمسجد، لأسباب لا يسمح المقام بالتطرق إليها، مما يساعد على اتساع الفجوة بين تديُّنها من جهة، ودينها من جهة ثانية، ومن ثم هل يمكن حصر تسديد التبليغ في المساجد وحدها، دون الاهتمام بالمجالات الحياتية الأخرى؟ أليس لهؤلاء الحق في أن يُبلَّغوا الدين الذي ارتضاه الله للعالمين؟ والذي لم يأت ليخاطب قوما دون قوم، وبشرا دون بشر، وإنما جاء ليخاطب الناس جميعا مصداقا لقوله تعالى في الآية 158 من سورة الأعراف: ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾، وقوله في الآية 28 من سورة سبأ: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾، أليس من الأولى فتح المجال أمام القدوات الحسنة من الوعاظ والخطباء ذوي الكفاءة العلمية والتواصلية، للقيام بعملية التبليغ السديد في المساجد عموما، وعلى منابر الجمعة خصوصا، فيما تتكلف وزارة الأوقاف بتوسيع عملية التبليغ المسدد ليعم جميع الفئات المجتمعية، التي تعمل مجموعة من الجهات الرسمية، وغير الرسمية على الحيلولة دون تديُّنها أصلا، أو على الأقل توسيع الخرق بين تدينها ودينها إلى أقصى حد ممكن. فماذا لو قامت هذه الوزارة في إطار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي هو من اختصاصها، باقتراح خطة تستهدف انخراط كل الجهات المعنية بالتأثير في توجيه الشباب إن إيجابا أو سلبا، للعمل سويا على تشجيع ثقافة الالتزام بالقيم والمبادئ الأخلاقية التي ترتَفِع بقيمة الإنسان إلى مستوى التكريم الذي خصه الله به، عوض استنبات مظاهر التفاهة، والانحلال الأخلاقي بكل تجلياته، ومما لا يجادل فيه أي عاقل، أن هذه الخطة تستلزم، بحكم الوضع المركزي لوزارة الأوقاف في النظام المغربي، الذي ينبني على ركيزتين أساسيتين هما: الدين الإسلامي باعتباره الدين الرسمي للدولة، وإمارة المؤمنين باعتبارها حامية الملة والدين، قلت أن هذه الخطة تستلزم العمل آنيا وعلى المديين المتوسط والبعيد على ثني كل المسؤولين الذين يعاكسون التدين الصحيح للمغاربة بل وكل مظاهر التدين على علاتها، على مراجعة ممارساتهم تجاه الدين والمتدينين، إذ كيف يعقل أن نتكلم على خطة لتسديد التبليغ في المساجد، والمفاسد تحيط بها من كل جانب؟ فهذه وزارة الثقافة تشجع على المهرجانات والتظاهرات الماجنة، عن طريق فسح المجال أمام حثالة من البشر تسيء إلى الفن أكثر مما تخدمه، وهذه وزارة العدل تدافع عن الزنا والشذوذ الجنسي...تحت مسمى الحرية الفردية وحقوق الإنسان، وهذه وزارة الإعلام تسهر على بث برامج لإشاعة الفاحشة وسيادتها في المجتمع تحت ذريعة الانفتاح، وهذه وزارة الاقتصاد تدمج مداخيل الخمور والتبغ والقنب الهندي و...ضمن ميزانية الدولة، وهذه وزارة ترخص لفتح خمارات وكازينوهات، وهذه وزارة يُفتخر فيها بارتفاع نسب النجاح في تناسب عكسي مع مدة الدراسة... أليست هناك قاعدة فقهية تقول بأن "درء المفاسد مقدم على جلب المصالح"؟
فماذا عسى أن تفعل خطة تسديد التبليغ، على افتراض أنها مُحاطة بكل النوايا الحسة الممكنة، في مساجد تسبح في هذا التيار الجارف، المتمثل في تعميم ما يطلق عليه القيم الكونية، عن طريق التأثير ولِمَ لا التحكم في سياسات واقتصاديات الدول المستضعفة على غرار المغرب، لذا من الواضح أنه من غير المجدي اعتماد خطط "مجهرية" من قبيل خطة تسديد التبليغ، التي يعد ضررها أكبر من نفعها، ولعل مبدأ تأبيد توحيد الخطبة في حد ذاته أمر فيه نظر، لأنه لا يسمح بملامسة هموم الناس ومشاكلهم، ومعايشة قضايا المجتمع المحلي ومعالجتها بما يتماشى مع السياق الذي يفرزها، بالإضافة إلى التذمر الذي لقيه في أوساط عدد كبير من الخطباء، بسب الغموض الذي أصبح يكتنف دور الخطيب ومآله، وكذا بعض ردود الأفعال المتداولة في وسائل التواصل الاجتماعي، والمتمثلة في الدعوة إلى مقاطعة خطب الجمعة، من بين السلبيات التي لا شك أنها ستتبعها سلبيات أخرى، إن لم يتم تدارك الوضع قبل استفحاله، واستغلاله من قبل الجهات المعادية للتدين، وبالأحرى لتسديد التبليغ، لتكون النتيجة المنطقية هي جلب المفسدة عوض المصلحة التي قد ترجى من الخطة.
في الأخير أرى أن موضوع ردم الهوة بين التدين والدين أكبر من أن يُعالج عن طريق خطة تسديد التبليغ، ولذلك وعلى اعتبار أن الطرف المعادي للدين والتدين لم يصل إلى ما وصل إليه من فرض توجهاته، بين عشية وضحاها، وإنما بالعمل الدؤوب والتخطيط البعيد المدى، ومن ثم وجب على وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، انطلاقا من الاعتبارات المشار إليها أعلاه أن تعمل على إعداد مخطط شمولي وبعيد المدى قد يمتد إلى سنوات، وربما إلى عقود يُدمج كل الوزارات من أجل التخفيف التدريجي من تلك الممارسات التي تهدف إلى إفراغ الدستور من فحواه في شأن كل ما له علاقة بثوابت الأمة وأحكام الشريعة الإسلامية.
وسوم: العدد 1086