المجتمع الدولي يتحمل المسؤولية التاريخية والأخلاقية عما يحدث في قطاع غزة من جرائم
المجتمع الدولي يتحمل المسؤولية التاريخية والأخلاقية عما يحدث في قطاع غزة من جرائم إبادة جماعية يرتكبها الكيان الصهيوني بتشجيع من الدول الغربية
من المفروض أن عبارة المجتمع الدولي تدل على مجموع البشرية الموزعة على بلدان القارات الخمس كبرى، وصغرى، قوية ،وضعيفة، نووية، وغير نووية ، ذات ماض استعماري ، ومستعمرة ، غالبة ، ومغلوبة ... ويمكننا الاستمرار في سرد أوصاف هذه وتلك لتكون النتيجة في الأخير هي دول بالعة و أخرى مبتلعة عسكريا ، وسياسيا ، واقتصاديا ، وثقافيا ... وهنا أيضا يمكننا الاستمرار في سرد مجالات التفاوت بين هذه وتلك لتكون النتيجة في الأخير هي دول مستقوية تستأثر بالتقدم ، وأخرى مستضفة تنوء بالتخلف .
ولقد صارت دلالة عبارة المجتمع الدولي مباشرة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية منحصرة في الدلالة على الدول ذات الماضي الاستعماري البغيض ، والتي خرجت منتصرة في تلك الحرب الدالة على مستوى الانحطاط الأخلاقي الذي انحدرت إليه البشرية إذ لو كانت المبادىء الأخلاقية هي المهيمنة لما حدث تلك الحرب أصلا، ولكن لما كان الوازع المهيمن هو التنافس على مناطق النفوذ في العالم من أجل نهب خيرات ومقدرات بلدان الشعوب المستضعفة المغلوبة على أمرها ، كان لا بد أن يمر العالم بالكابوس المفزع لتلك الحرب العبثية التي دفعت ثمنها الباهظ كل شعوب العالم ، ولا زالت تؤدي الثمن غاليا إلى يوم الناس هذا .
ولقد صار الإنسان اليوم محتارا في دلالة المجتمع الدولي، أهو مجموع البشرية التي تعمر المعمور أم هي الدول الغالبة في الحرب العالمية الثانية التي كسبت من ضمن ما كسبت في تلك الحرب إلى جانب صفة القوة والهيمنة ، والريادة ، باطلا أضفت عليه صفة الحق ، وهو ما يسمى بالفيتو الذي هو عبارة عن سيف مسلط على المبادىء، والأخلاق، والقيم الإنسانية حتى بلغ عتو هذا الحق الذي هو باطل صارخ يقرر عدم وقف جرائم إبادة جماعية ترتكب من طرف كيان هو من مخلفات الاحتلال الغربي للبلاد العربية ، ومن نتائج الحرب العالمية الثانية ضد شعب احتلت أرضه ،وسلمها محتل سابق لها لمحتل لاحق، و ملّكت له بقرارات جائرة بيد الدول المستقوية والمستأثرة بباطل الفيتو .
وعندما يستعمل هذا الباطل الصارخ من أجل استمرار الإبادة الجماعية في قطاع غزة من أرض فلسطين المحتلة أكثر من مرة في مدة قصيرة ، فإن ذلك يعني بكل وضوح أن الدول التي تملكته بمنطق القوة تتحمل المسؤولية التاريخية والأخلاقية لتلك الإبادة ، وهذا لا يعفي باقي دول المعمور من هذه المسؤولية الجسيمة، لأنها لم تستطع أن تقف موقفا صارما رافضا لباطل الفيتو الجائر الذي صيرته الدول المهيمنة على صنع القرار في العالم حقا أبديا خوله لها امتلاكها أسلحة الدمار الشامل التي تلوح ، وتهدد بها كل من يعترض على طغيانها واستبدادها وظلمها . ولقد صنع هذا التلويح وهذا التهديد من دول العالم غير المالكة لتلك الأسلحة دولا خاضعة، خانعة، مسلوبة الإرادة، تابعة لها تأتمر بأوامرها، ووراءها التهديد بالعقوبات، وبالحصار، وربما بما لا تحمد عقباه من ويل وثبور وعواقب الأمور قد يصل إلى غزو جديد بعد غزو سابق .
ومن سوء حظ الشعب الفلسطيني ضحية جرائم الإبادة الجماعية من طرف المحتل الصهيوني العنصري الذي خلف المحتل البريطاني، أنه محاط بدول شقيقة كانت في بداية الأمر تدافع عن حريته واستقلاله، وتجيش جيوشها من أجل ذلك إلى جانب دول شقيقة أخرى وإن بعدت ، لكنها تحت ضغط الدول صانعة القرار بقوة التسلح وقوة الفيتو تم تحييد كل الدول العربية التي صارت تتفرج على إبادة الشعب الفلسطيني ، ولا تزيد مواقف حكامها عن عبارات الاستنكار والتنديد المحدودة الصيغة، والممجوجة في نفس الوقت .وفي المقابل لا تأثير يذكر لمسيرات شعوبهم التي يسمحون ببعضها ، ويمنع أغلبها ، ولولا خروج شعوب دول الفيتو في بعض المسيرات، لما سمح أصلا للمسيرات في البلاد العربية .
ودون الخوض في ثمن تحييد تلك الأنظمة العربية من قبل دول الفيتو الغربية بخصوص ما يجري في قطاع غزة ،إلى درجة أن بعضها وهي دول الجوار لم تجرؤ على مجرد إمداد الشعب الفلسطيني بالماء ، ولا نقول الطعام ، مع أن حرمانه منهما يدخل ضمن أساليب إبادته الجماعية . وبهذا تتنكر أنظمة تلك الدول لمسؤوليتها الدينية أولا التاريخية والأخلاقية ثانيا تجاه شعب شقيق تعتبر نصرته واجبا دينيا قبل أن يكون واجبا أخلاقيا .
ولابد من الإشارة إلى أن دول الفيتو من غير دول المعسكر الغربي لم تتحمل مسؤوليتها التاريخية والأخلاقية بسكوتها وتفرجها على جرائم الإبادة ، ولا يكاد موقفها يختلف عن موقف من يجترون عبارات التنديد بها دون الانتقال إلى موقف إجرائي يمنعها أو يحول دونها ، الشيء الذي يستغرب منها ، ويثير الشكوك في كونها ربما هي على تفاهم تام مع الدول المستعملة للفيتو ضد قرار وقف الإبادة . وهنا أيضا لن نخوض في ثمن الصفقة إن كانت هناك صفقة بالفعل ، أما إن لم تكن ،فستزاد حيرة المحتار من سكوتها ، وسيتأكد مهما يكن من أمر وجود ثمن ما لهذا السكوت من دول هي نووية أيضا على منع وقف الإبادة الجماعية باستعمال غيرها الفيتو .
وأما عن شعوب العالم عموما ، والشعوب العربية والإسلامية على وجه الخصوص التي تخرج في مسيرات على ندرتها للتنديد بالإبادة فالسؤال المطروح هو : هل هي مضطلعة حقا بمسؤوليتها الدينية أولا وقبل كل شيء، ثم التاريخية والأخلاقية بعد ذلك ؟ ألا يجب عليها أكثر من تسيير المسيرات من أجل استيفاء واجب الاضطلاع بالمسؤولية المنوطة بها ؟
ولن نخلص من موضوع المسؤولية الدينية والتاريخية والأخلاقية التي فرضتها الإبادة الجماعية الجارية في قطاع غزة، والممتدة إلى الضفة الغربية من أرض فلسطين المحتلة ، والتي يبدو أنها لن تتوقف أو بالأحرى لن يوقفها لا ما يسمى بمجلس الأمن الدولي ، والأجدر أن يسمى مجلس الفيتو ، ولا ما يسمى بالمحاكم الدولية الصورية التي تقضي ولا أثر يذكر لقضائها، بل تنتقد من طرف الكيان الصهيوني باستخفاف ووقاحة ، وتشاركه في ذلك الدول التي تحميه بالفيتو ، وتمده بالسلاح ، وتشاركه إجرائيا في الإبادة وقد تورطت فعليا فيها جيوشها ، لن نخلص من هذا دون أن نعرج على ذكر أنظمة عربية لم يؤد حتى الحد الأدنى من تحمل المسؤولية الدينية والتاريخية والأخلاقية على تفاهته ، ولم تكلف نفسها مجرد اجترار عبارة التنديد المستهلكة والممجوجة بجرائم الإبادة ،بل سارعت لاهثة وراء التودد إلى الكيان الصهيوني متنكرة للواجب الشرعي قبل الواجب الأخلاقي والتاريخي ، وهي تود زوال دولة فلسطين من أجل أن ينعم المحتل الصهيوني بالسلام والأمن والرخاء مع أنه خطر يتهددها ليس من النيل إلى الفرات كما يصرح بذلك بل ما وراءهما ، وأبعد من ذلك بكثير .
ونؤكد على أن كل الأطراف المتنكرة اليوم للمسؤولية سواء الدينية أو التاريخية أو الأخلاقية، تعتبر شريكة في عار الإبادة التي ستكون له تداعيات وعواقب الله تعالى وحده أعلم بها ، ولن ينفعها ندم على ما فرطت فيه، ولات حين مندم .
وأخيرا سيسجل التاريخ بحروف بارزة لن تمحى أبدا بأن الشعب الفلسطيني قد صار معلم الشعوب ،وهو في طليعتها بصموده ،واستماتته ، وتضحياتها من أجل حريته واستقلاله ، ومنه تتعلم دروس العزة، والكرامة، والإباء، وسمو القيم والأخلاق . وكلما ازداد هذا الشعب سموا ورفعة ،تردي أعداؤه في أوحال المذلة والهوان والانحطاط الأخلاقي.
ولا شك أن ما بعد هذه الإبادة سيغير حتما من وضع العالم حيث يتحول من عالم الوحشية والهمجية إلى عالم تسمو به القيم الراقية ، والمؤشرعلى ذلك هو وعي شعوب دول الفيتو بأن أنظمتها هي عبارة عن عصابات إجرامية تسخر مقدراتها من أجل كيان عنصري دموي، سيكون العالم بألف خير يوم يطوي التاريخ صفحته إلى الأبد، وهو يوم آت لا محالة، لأن العالم لن يتحمل أكثر مما تحمله جراء هذا الكيان اللقيط تاريخيا .
وسوم: العدد 1089