الموت رحمة: حكايات النزوح والقهر في «الشرق الأتعس»!

إنه الشرق المنكوب، الشرق، الذي نال من الأحزان نصيباً لا يُحتمل. الشرق، الذي عانى من الأوجاع أكثر مما يتخيل بشر، يتنفس الألم مع كل شهيق، ويزفر الأسى مع كل زفير. هذا هو «الشرق الأغم»، الشرق الذي غطته غيوم القهر ودهور الظلم والدماء.

منذ التاسع من أكتوبر/تشرين الأول، والعالم بأسره يتابع بألمٍ ودهشة ما يجري في منطقتنا. لم نعد نقرأ سوى عن القتل، عن الإجرام، عن تلك الوحشية التي تفوق الخيال. العالم يشهد على احتضار أرضنا، يراقب بصمت قهر أبنائنا، أمهاتنا، آبائنا، إخوتنا وأخواتنا، أجدادنا وجداتنا. ونحن العاجزون نعيش أوجاعهم، نشعر بآلامهم، كما لو كانت جزءًا منا. نرتعد مع صرخاتهم، نختنق مع شهقاتهم، نبكي معهم قهرهم، ونحن نشهد نزوحهم اليومي وموتاهم، الذين يتساقطون أمام أعيننا. لكن لا نستطيع أن نفعل شيئاً.

لقد ذُبحت غزة آلاف المرات في الدقيقة الواحدة، تم اغتصابها بطرق لا يمكن أن تصفها الكلمات، فقط الوحوش تستطيع أن تنفذها. وكل يوم، تضاف آلاف القصص الموجعة والصادمة إلى تلك الجعبة المثقلة بالآلام.. إن تلك القصص التي تتناثر على وسائل التواصل الاجتماعي، لا يمكن أن تُكتب إلا بالدموع والأحزان والدماء. ولكل حيّ، حتى هذه اللحظة التي تقرأون فيها هذه الكلمات، حكاية. حكايات الموت باتت أكثر بكثير من حكايات الأحياء. حكايات تنبض بالظلم والقهر إلى درجة تعجز الكلمات عن وصفها.

إنها القصص التي تكتب نفسها بنفسها.. هكذا تنزلق الحروف لتغرق في دموعها قبل أن تصل إلى الورق.

من أين نبدأ؟ أنبدأ من قصف جيش الاحتلال الإسرائيلي لمدرسة «التابعين» وقتل أكثر من مئة شخص معظمهم من الأطفال وجرح عشرات من النائمين في أسرتهم.. أو قصف مئة أخرى من المصلين فجراً وهم ساجدون يؤدون فريضة الصلاة، أو نخبركم عن ذلك الأب الذي تحطم قلبه على باب المستشفى، حيث أنجبت زوجته توأمين؟ يومها ذهب ليحمل بين يديه شهادة ميلاد توأمه. كان يعد الثواني ليراهما، ليحضنهما ويقبلهما. فهو أحبهما منذ اللحظة الأولى التي شعر بتلك الركلة الصغيرة وهو يتحسس بطن زوجته. أو ربما أحبهما قبل ذلك بكثير. لكنه وصل إلى المستشفى ليجد أن شهادتي الميلاد ليست إلا شهادتي وفاة. لقد فقد توأمه آسر وآيسل، وزوجته، وحتى الجدة التي كانت تنتظر معهم بفارغ الصبر. كلهم ماتوا في واحدة من غارات الحقد الإسرائيلية الكثيرة، التي لا تستهدف سوى الأبرياء. وبقي الأب وحيداً لا يعرف كيف يستوعب عاصفة الموت التي اجتاحت حياته مرة واحدة!

فبدل أن تغسل وجوه الأطفال برفق وحنان عند الولادة، تغسل من دمائهم كي تدفن.. وبعضها لا يبقى منه شيء بعد أن تبخر بفعل غارات العدو الفاجرة. وهذه هي حكاية محمود أبو جامع، الذي بحث طويلاً عن أسرته بين الركام عقب استهداف منزل العائلة ببرميل متفجر. بحث طوال الليل ليعود بكيس بلاستيكي جمع فيه بعضاً من أشلاء زوجته وابنيهما بسبب تعثر انتشال بقايا الجثث.

نعم هذه هي أهداف الجيش الأكثر وحشية على هذه المجرة.. ولا شك أنه يختار أهدافه بعناية شديدة.

الخاتم الأخير

إنها حكايات النزوح.. تلك التي تتشابك فيها خيوط الحياة والموت.. تلك التي لا تقل بشاعة عن قصص الموت ذاتها. بل ربما تفوقها ألماً، إذ تجعل الناجين يتمنون الموت في لحظات الضعف واليأس، علّه يكون الخلاص الوحيد من العيشة المرهقة التي تحولت إلى كابوس دائم.. تشرد، عطش، جوع، وأرق يتسرب إلى العظام، يثقل الأجساد ويثقب الأرواح.

عائلاتٌ بأكملها تهيم على وجوهها في شوارع المدينة المدمرة، تفترش الأرض الباردة، وتلتحف السماء الملبدة بالدخان. تنام داخل خيام ممزقة، لا تقيهم ثقل الليل ولا قسوة الحرب. كل هذا في محاولة يائسة للهرب من آلات الموت الإسرائيلية التي لا تميز بين بشرٍ أو حجر. تُجبر العائلات على النزوح مرة تلو الأخرى، والموت ذاته يلاحقهم أينما حلّوا.

في خضم هذا الخراب، يقف طفلٌ صغير، أحد أبناء غزة النازحين، يختصر حجم البؤس في كلمات لا تحمل من طفولته إلا براءتها المذبوحة: «أبشع ما في النزوح أننا نهرب من القصف، بينما جثث الشهداء ملقاة في الشوارع.. أتمنى أن تنتهي الحرب، وأن يكون أقرباؤنا بخير، لنلتقي بهم من جديد.»

لقد أجبرت عائلة ذلك الصغير، مثل عائلات أخرى كثيرة، على النزوح أربع مرات في شهر واحد فقط. وفي كل مرة كانت العائلة تضحي بأشيائها لتتمكن من البقاء على قيد الحياة.

ومع كل نزوح، تزداد تكاليف الهروب، وتضيق الدنيا، حتى اضطر الزوج إلى بيع خاتم زوجته، خاتم الزواج الذي كان آخر ما يربطهما بحياتهما السابقة وذكرياتهما لتغطية تكاليف النقل لمكان آخر، قد يكون أكثر أماناً، أو هكذا ظنّوا. كانت تلك اللحظة التي شعرا فيها بأنهما قد خسرا كل شيء، ولم يعد لهم ما يبيعونه سوى أرواحهم المنهكة.

الآن، باتت تلك العائلات تخشى النزوح أكثر من الصواريخ، تخشى أن تكون المحطة التالية هي الهاوية، حيث لا مفر من الموت، ولا خلاص من هذا الجحيم المتنقل.

وفي كل مرة يختبرون فيها النزوح، يزدادون قناعة بأنهم قد أصبحوا أسرى لقدرٍ لا يرحم، انتظاراً للموت الذي قد يأتي في أي لحظة، ربما ليحملهم بعيداً عن هذه الحياة التي باتت أكثر قسوة من الموت نفسه.

وسوم: العدد 1091