ماذا وراء الإفصاح عن فحوى بعض التقارير الأمريكية ؟؟؟
وأنا أتصفح الجرائد الإلكترونية ليوم الأربعاء 14 غشت، استفزني مقال بإحداها تحت عنوان "تقرير أمريكي: المغاربة من أكثر المتدينين في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا" ورد في فقرته الأولى ما يلي: "كشف تقرير حديث نشره مركز ''بيو'' الأمريكي، المتخصص في الأبحاث الديمغرافية والاجتماعية، بناء على بيانات مجمعة من الاستطلاعات التي أجراها المركز ما بين سنتي 2008 و2023 حول البلدان الأكثر تدينا في العالم (102 دولة)، أن المملكة المغربية تتصدر قائمة دول شمال إفريقيا على مستوى أهمية الدين في المجتمع، إذ يشدد قرابة 90 في المائة من المغاربة على أهمية الدين في حياتهم، فيما يؤكد أكثر من 70 في المائة منهم أنهم مواظبون على الصلاة بشكل يومي". وهو ما حذا بي إلى طرح مجموعة من التساؤلات ألخصها في الآتي:
- ما دخل أمريكا في تدين أو عدم تدين بلدان العالم عامة، والمغاربة خاصة؟ وما الدافع وراء إخراج هذا النوع من التقارير للعلن؟
- ما مدى حياد ومصداقية النتائج المصرح بها؟
- ما موقع الدين الإسلامي في هذا التقرير؟
- ما الهدف من مقارنة تدين المغاربة بتدين دول متعددة الديانات بصفة عامة، وبتدين الدول الإفريقية خاصة؟
- ما هي النتائج المحتمل استهدافها من هذا التقرير؟
ففيما يتعلق بالتساؤل الأول، دفعني فضولي للبحث عن الخلفية السياسية والدينية لمركز 'بيو' باعتباره مصدر التقرير، وتبين لي أن مؤسسوه ينتمون دينيا إلى الكنيسة المشيخية البروتستانتية الأمريكية، وأن تأسيسه جاء في إطار ديني وفق تصور للعمل الخيري ''الهادئ''، فيما ينتمون سياسيا إلى التيار المحافظ. ولعل هذا الانتماء المزدوج كاف لإعادة النظر في تصريح المعهد باستقلاليته، وإذا علمنا أن تديُّن المجتمعات يُعتبر من أهم المؤشرات الدالة على تشبثها بثوابتها وقيمها الأصيلة التي تقف سدا منيعا ضد الاستلاب والقابلية للاختراق والاستعمار، تَبيَّن أن الدافع وراء إيلاء أمريكا، والغرب بصفة عامة، هذا النوع من التقارير، أهمية بالغة، يكْمُن في كونها تزودها بالمعطيات اللازمة لبناء الخطط والاستراتيجيات التي تسمح باختراق المجتمعات المعنية، وتوجيهها نحو الاستهتار والتفريط بكل ما له علاقة بعقيدتها وقيمها وثقافتها، مقابل الإعلاء من قيمة الثقافة والقيم التي تُروِّج لها هذه التقارير بشكل مباشر أو غير مباشر، خدمة لمصالحها السياسية والمادية.
أما فيما يتعلق بحياد ومصداقية النتائج التي تعلن عنها هذه التقارير، فلا يمكن إلا التشكيك فيها، وفي المنهجية المعتمدة للحصول عليها، لأسباب متعددة، أهمها الخلفية الأيديولوجية للمركز، كما هي واضحة معالمُها في التقرير الذي أصدره سنة 2014 حول التعددية الدينية في العالم، وهو التقرير الذي حاول قراءة التنوع الديني بشكل مفصل في كل بلدان العالم، مركِّزا على الأديان الخمسة المعترف بها عالميا، وهي الإسلام والمسيحية واليهودية والبوذية والهندوسية، والتي يمثل معتنقوها ما يقارب ثلاثة أرباع سكان العالم، فيما تم دمج ما تبقى من سكان العالم في ثلاث مجموعات إضافية، تضم مختلف التوجهات العقدية، بما فيها التوجه الإلحادي. والملفت للانتباه في التقرير هو المنطق المعتمد في حساب مقدار التعدد، أو التنوع الديني في البلدان المعنية، بحيث تُسنَد للبلد الذي يتوفر على معتنقي هذه الديانات/المجموعات الثمانية بنسب متقاربة، أكبر درجات التنوع الديني. وهو ما نتج عنه تصنيف معظم الدول العربية في مجموعة الدول ذات التعددية الدينية الضعيفة، بل وتصنيف المغرب كدولة معادية لهذه التعددية بمنحه الدرجة 0 ضمن سلم يتضمن 10 درجات، وهو ما يمكن ترجمته بانعدام التسامح الديني بالمغرب، وهذا غير صحيح البتة، ويؤكد بالملموس عدم حياد ومصداقية هذا النوع من التقارير، من خلال نزوعها إلى مصادرة حق الدول والشعوب في وحدة دينها، وعقيدتها بغض النظر عن احترام هذا الدين أو تلك العقيدة للأقليات الدينية والعرقية.
وبخصوص التساؤل الثالث، فلم أجد للتعبير عنه أحسن من المثل الشعبي القائل:" الهدرة على خالتي والمعنى على جارتي" ذلك أن المستهدف الأساسي بهذا النوع من التقارير هو الإسلام نفسه، إذ كيف يُتصور وجود تعددية دينية بهذه الصيغة، التي يُفرض فيها تواجد المجموعات الثمانية بنسب متقاربة، في بلد دينه الإسلام بمنطوق الدستور، اللهم إذا كان الهدف هو ترك الباب مشرعا أما الردة وأمام "استيراد" أتباع الديانات الأخرى، مع تفعيل إجراءات تحفيزية، وإلا فالتسامح الديني من خصائص الإسلام التي تجسدت في واقع المسلمين عبر التاريخ القديم والحديث، ولعل معاملة الطائفة اليهودية في المغرب، وطائفة الأقباط في المشرق لخير دليل على ذلك، ومن ثم فكل ربط للتسامح في البلاد الإسلامية عموما وفي المغرب خصوصا بالتعددية الدينية أو لِنَقُل الفوضى الدينية بتعبير أدق، لا يمكن إلا أن يَندرج في إطار استراتيجية الحد من توسع الإسلام الذي بدأ يغزو الغرب في عقر داره.
أما بخصوص التساؤل الرابع، فمقارنة تدين الدول المتعددة الديانات بتدين المغاربة، على اعتبار أن الصلاة هي محور التدين، لا يستقيم حتى وإن اقتصرنا على معتنقي ما أسموه بالديانات الإبراهيمية، فعندما يتم التصريح على سبيل المثال بأن نسبة المواظبين عن الصلاة بشكل يومي في المغرب هو 70%، وأن هذه النسبة تصل إلى حوالي 82% في باراغواي، حيث المسيحية الكاثوليكية هي الديانة الغالبة بما يقارب 89.9% حسب إحصاء 2002، فأي علاقة بين النسبتين، إذا علمنا الاختلاف الجوهري شكلا ومضمونا بين مفهوم الصلاة عند المسلمين، وعند غيرهم من الديانات الأخرى وعلى رأسها المسيحية، اللهم إذا كان الهدف هو التمويه على حقيقة أن الإسلام هو المستهدف الرئيسي، ومن ثم فإن اعتبار المواظبة عن الصلاة بغض النظر عن الدين المنبثقة منه عنصرا أساسيا في سيادة عدم التسامح الديني في بلد معين، ليس سوى ذريعة لشرعنة العمل على التخفيض من نسبة المصلين المسلمين دون غيرهم، على غرار باقي الممارسات التي يُكال فيها بمكيالين أو أكثر، كما هو الشأن بالنسبة لمفهوم حقوق الإنسان على سبيل المثال الذي يعتبر مفهوما عالميا من الناحية النظرية، لكن ممارسته تختلف باختلاف عقيدة الفرد المعني أو عرقه أو ثقافته...ومن ثم فإن الأمر لا يحتاج إلى كبير عناء للبرهنة على أن ربط عدم التسامح الديني بالمواظبة عن الصلاة يتعلق أساسا بالمسلمين دون غيرهم، ولعل تصنيف كل الدول الإفريقية أكثر تسامحا من المغرب، الذي يُعتبر الإسلام دينه الأساسي على المستويين الشعبي والرسمي، في الوقت الذي تم فيه تقدير نسبة مسيحيي أفريقيا ب 49% ونسبة مسلميها ب 41% سنة 2020، يعتبر دليلا واضحا على أن الصلاة المعنية بفعل المواظبة والمتسببة في عدم التسامح هي صلاة المسلمين. ومن ثم كان لا بد من تجنيد كل الإمكانات المادية والمعنوية لدفع المسلمين للاستهانة بأهمية الصلاة، التي تعتبر عمود الإسلام بمنطوق قوله صلى الله عليه وسلم: "بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة". وفي حالة ما إذا تمت هذه الاستهانة، سهُلت عملية الانتقال من الإسلام إلى المسيحية، أو الإلحاد، على غرار ما هو ملاحظ في السنوات الأخيرة في عدد لا يستهان به من الدول العربية والإسلامية، تحقيقا للتعددية الدينية.
أما فيما يتعلق بالتساؤل الأخير، ونظرا لكون التقرير في متناول الجميع، فلا بد أن هناك أهدافا من وراء إخراجه للعلن، وإلا فالأصل في التقارير المهمة أنها تكون سرية، لذلك أعتقد أن النتائج المعلن عنها في التقرير ليست مستهدفة في حد ذاتها، بغض النظر عن صحتها أو خطئها، وإنما المستهدف هو التأثير الذي تُخلِّفه في مختلف الشرائح المجتمعية إيجابا أو سلبا. فإذا تم استثناء تلك الشريحة التي لا تُلقي بالا لا لهذه التقارير ولا لغيرها، إما عن جهل وإما عن تجاهل، أعتقد أنه من المحتمل جدا أن يتم على الأقل استهداف تأثيرين أساسيين: الأول يتعلق بشريحة المسلمين الذين يبحثون عن أي شيء يطمئنهم بأن الإسلام بخير، ومن ثم لا حاجة للقلق على مستقبله بدليل أن 70% من المغاربة يداومون على الصلاة، مما يؤدي إلى الاستكانة دون العمل على تحقيق مقتضيات الصلاة المتمثلة أساسا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مصداقا لقوله تعالى في الآية 45 من سورة العنكبوت:﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ﴾، والذي من مقتضياته الوقوف في وجه المخططات التي تُحاك لهم بالليل والنهار سرا وعلانية. أما الثاني فيخص تلك الشريحة من المناوئين والمحاربين للإسلام، إن على المستوى الداخلي أو الخارجي، الذين ينزعجون من مثل هذه النِّسب إن صحت، مما يُحرضهم على مضاعفة المجهودات لخفضها، حتى يتسنى لهم تمرير مخططاتهم التي تندرج تحت مسمى القيم الكونية.
ختاما أرجو ألا يستهين الواقفون على ثغور الإسلام بمثل هذه التقارير، وأن يقوموا باستفراغ الوسع في دراستها، لاستنباط أهدافها المعلنة منها والخفية، واتخاذ الإجراءات اللازمة لتحسيس المجتمعات المسلمة بخطورتها وكيفية مواجهتها.
وسوم: العدد 1092