مزايدات الطُرقيّين على عموم المسلمين بتزكية نفوسهم واستئثارهم بمعرفة أسرار دونهم والتباهي عليهم برهافة الأذواق وسموها
دون حاجة إلى الخوض في ظروف نشأة الطرقية في العالم الإسلامي أول ما نشأت ، أو بسط القول في من ينعتون بأقطابها ، أو في أساليب استقطاب أتباعهم ومريديهم ،وما يحددونه لهم من أوراد تنقلهم عبر مقامات يتشوقون خلالها إلى أحوال ...، سيتركز موضوع هذا المقال على عقدة تنشأ لدى الطرقييّن ، ويتلقونها عن شيوخهم تلقي يقين لا يخامره شك ، ومفادها أنهم في العبادة ليسوا كعامة المسلمين، بل لهم عليهم فضل كبير، وهي عقدة تزكية النفس التي تجعلهم يعتبرون أنفسهم أهل الله وخاصته قد آثرهم بكشف الأسرار لهم المستغلقة على غيرهم من العامة ، كما أنه خصهم برهافة الأذواق التي حرمها غيرهم .
من المعلوم أن أول عقدة تزكية للنفس كما صورها كتاب الله عز وجل، نشأت عند المخلوق الناري إبليس اللعين الذي جادل ربه بكل وقاحة ممتنعا حين أمره بالسجود للمخلوق الطيني الذي خلقه سبحانه وتعالى بيده فامتنع كبرياء: (( قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين )) ، ففي هذه الآية الكريمة الثانية عشرة من سورة الأعراف، يكشف الله تعالى عن عقدة تزكية إبليس اللعين نفسه بعبارة : " أنا خيرٌ من ... " . ولقد حاول إبليس بعد أن طرد من رحمة الله عز وجل أن يمرر هذه العقدة إلى آدم وزوجه عليهما السلام محاولا إغواءهما بالأكل من الشجرة المحرمة عليهما كما جاء في الآية الكريمة العشرين من سورة الأعراف : (( فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين وقاسمهما إن لكما لمن الناصحين فدلاّهما بغرور )) ، وبهذا استطاع اللعين أن يحرك في نفسيهما هذه العقدة التي علتهما يتوقان إلى الانتقال من طبيعة بشرية إلى طبيعة ملائكية ، أومن طبيعة طينية إلى طبيعة نورانية ، ويتوقان إلى الخلد . وكانت طريقة إبليس وسوسة خدعهما بها بيمين كاذبة . ويستفاد مما أخبرنا به الله عز وجل عن هذه الوسوسة الشيطانية أن عقدة تزكية النفس متأصلة في طبيعة النفس البشرية، وأن الذي يحركها في الإنسان إبليس اللعين. وبناء على هذا، فإن كل إنسان تحدثه نفسه بتزكيتها تركبه هذه العقدة ،فتجعله يعتقد في داخله القدرة على بلوغ ما لا يبلغه غيره من المراتب التي تجعله متميزا عنه .
ولقد تظهرت عقدة تزكية النفس أول الأمر عند مخترعي الطرق الذين يدعون أنه قد أُذِن لهم بها من العالم العلوي إما إلهاما من الله تعالى عن ذلك علوا كبيرا حسب زعمهم، وهو الذي أخبرنا في كتابه الكريم أنه إنما خص بوحيه من اختارهم من رسل وأنبياء صلواته وسلامه عليهم أجمعين فقال : (( عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا ليعلم أن أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا )) أو يزعمون أن نبيه صلى الله عليه وسلم هو الذي أذن لهم باتصاله بهم في منامهم ، وأذن لهم بدعوة الناس إلى اتباعها طرقهم . ويحاول هؤلاء بدورهم تمريرعقدة تزكية النفس المتأصلة في الطبيعة البشرية إلى أتباعهم أو مريديهم ، ويزينون لهم التوق إلى مراتب، ويزعمون لهم أن عامة الناس لا يدركونها ، كما يزعمون لهم أنهم هم وحدهم من لديهم القدرة على الوصول بهم إليها عبر رياضة روحية قوامها أوراد ذكر يحددونها لهم فتنقلهم عبر مقامات يحددونها لهم إلى أن تصل بهم إلى أقصى غاية .
وأول ما يُسأل مريدو الطرق عن اختيارهم لهذه الطريقة أو تلك ، يذكرون شيوخا بأعيانهم من الأموات أو من الأحياء ، ويصفونهم بالأقطاب الكُمّل ، علما بأن الكمال إنما خص به الله عز وجل أنبياءه ورسله ، ولا يتجرأ على الاتصاف به إلا من ركبه غروره ، وأسرته عقدة تزكية النفس ، أوتضخم الأنا . واعتقاد مريدي الطرق الراسخ والجازم بكمال شيوخهم هو الذي يستدرجهم نحو الرغبة الملحة في التشبه بهم ، وبذلك تصيبهم عقدة تزكية نفوسهم ، فيزايدون بها على عموم الناس من المسلمين ، وبسببها يباهونهم برهافة أذواقهم التي تمكنهم من إدراك أسرار مستغلقة على غيرهم من أسرى الشريعة التي تحول دون بلوغ شأوهم في إدراك الحقيقة الملغزة والمستعصية على من لا أذواق لهم .
ويتحدث الطرقيّون تحت وطأة عقدة تزكية النفس بما يتلقونه عن شيوخهم بقاموس طرقي قوامه كلمات وعبارات خاصة بعضها مقتبس مما يدور في مجالس الهوى، ومجالس الشرب، و نذكر منها على سبيل الذكر لا الحصر الوجد وهو لغة ما دل على أرق الحب أو الشغف ، والسُكْر وهي حالة ذهاب الخمر بالعقل، وهم يعبرون بها عما يزعمون أنهم يجدونه من لذة روحية تحاكي ما يجده شارب الخمر من لذة في سكره تغيّبه عن الواقع ... ولهم دون ذلك ألفاظ وعبارات أخرى كالفيض، والاتحاد ،والفناء... وهلم جرا ،يتيهون بها على غيرهم ممن لا يفهمونها ، بل يسخرون منهم إن ذهبت أذهانهم إلى دلالاتها على وجه الحقيقة ، وغابت عنهم دلالاتها المجازية التي لا يدركها إلا من تلاقها عن شيوخ كُمَّل أذن لهم بتلقينها لغيرهم .
ومن آفة تزكية النفوس عند الطرقييّن أنهم يطلبون ممن يدعونهم إلى سلوك طرق شيوخهم تعطيل عقولهم، لأن طرقهم لا يمكن أن تسلك بواسطة العقول ، فضلا عن تقييدهم بشرط الطاعة العمياء والخضوع التام للشيوخ الذين هم الأدلاء الخبراء العارفين بأساليب سلوكها ،والمعتمد عليهم لتنكب المهالك فيها ... إلى غير ذلك مما يستغلق على أفهام العامة . والاعتقاد بتميّز الشيوخ الكمّل يجعل المريدين ينزلونهم منزلة الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم ،خصوصا وهم يدعون أنهم يرونه في منامهم ، ويتلقون عنه مباشرة ، ويؤمرون بتبليغ ما يتلقونه عنه للناس ، وكأن الوحي لم يكتمل مصداقا لقول الله تعالى : (( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا )) ، وكأن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين لم يتلقوا القرآن كاملا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، و لم يتلقوا عنه سنته كاملة أقوالا، وأفعالا، وتقريرات ، وقد نقلها عنهم أئمة عدول نقلا لا يرقى إليه شك ، الشيء الذي يدحض دحضا ادعاء كل من يزعم أنه يتلقى عنه في منامه كما تلقى عنه صحابته يقظة . والطرقيون لا يخامرهم أدنى شك في أن شيوخهم الكُمَّل يتلقون عن رسول الله صلى الله وسلم عليه مباشرة في منامهم ، بل منهم من يزعم التلقي عنه عيانا ، وهم يتعسفون في تأويل الحديث النبوي المشهور : " من رآني في المنام فقد رآني حقا " وفي رواية زيادة " فإن الشيطان لا يتمثل بي " حين يدعون أن شيوخهم يرونه حقا عليه السلام في المنام ، فيكلمهم بل ويأمرهم أيضا ، الشيء الذي يجعلهم تحت وطئة تزكية النفس،ويجعلهم يطمحون إلى الحصول على مثل تلك الرؤى ، بل فيهم من يزعمون أنهم هم الآخر يرونه وباستمرار ، ويحدثهم .
وصلة بزعمهم رؤية النبي صلى الله عليه وسلم مناما وحتى يقظة عند بعضهم ، يزعمون أنهم يبلغون عنه ما يدعونه من تزكية وصفاء روحي، وأنهم يشاهدون المغيّبات مما لا يشاهده غيرهم من العامة ، وعن بعضهم تروى عبارة : " قد بدأنا نشاهد"، وأذكر أن أحد شعراء الرومانسية الحالمين في عوالم الخيال استعمل هذه العبارة نقلا عن أهل الطرق . وهذه المشاهدة المزعومة هي ما يغري مريدي الطرق ببلوغها ، فضلا عن شغفهم بالكرامات والأحوال التي يدعونها ، والتي
لا قبل لعامة الناس بها . ويلتمس الطرقيّون تحت وطأة تزكية نفوسهم ما يمنِّيهم به شيوخهم من إدراك أحوال و كرامات عن طريق أوراد معلومة لا يجوز مخالفة الأقدار التي يقدرونها لهم ، وعن طريق شطحات يزعمون أنهم يلجون بها عوالم الوجد والسكر والفناء ... وكل ذلك مما لا سند له في كتاب الله تعالى أو في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم . وما كان الله تعالى وقد أرسل رسالته الخاتمة إلى العالمين قرآنا وسنة كي يهتدوا بها إلى صراطه المستقيم دون تمييز بينهم أن يؤثر الطرقيين بما يدعونه مما يُحرم منه سواد المؤمنين ، ذلك أنه سبحانه وتعالى قد يسَّر القرآن للذكر ، وقيض له ورثة ورثوا عن نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم العلم ، وهم العلماء الربانيون الذين يوضحون للناس ما غمض عليهم من كلام الله تعالى ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ويذللونه لهم كما بلغه عليه الصلاة والسلام دون شطحات الطرقيين ، كما خلف لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذكار المأثورة عنه وهي متواترة يتحقق بها السمو الروحي لكل من يذكرها خلاف ما يدعيه الطرقيون من أوهام الفيض والوجد أو السكر أو الفناء ... أو غير ذلك مما يُفترى من الأوراد المزعومة مما لم يثبت منه شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يجزه الثقاة من أهل العلم بسنته .
وأشد خطورة من آفة تزكية أهل الطرق أنفسهم الاعتقاد في شيوخهم الكُمَّل أنهم يسألونهم ما لا يسأل إلا من الله عز وجل ، وهذه مصيدة من مصايد الشرك الخفي الذي لا يأبهون له ، ويوقعهم فيه ما توحيه إليهم بعض تلميحات شيوخهم من اقتدارهم على أفعال النفع ناسين أو متناسين قول الله تعالى مخاطبا نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم : (( قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسَّني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون )) ، فإذا كان هذا شأن سيد ولد آدم عليه السلام الذي ختم به الله تعالى الرسل والرسالات ، فما ينبغي لأحد مهما كان أن يزعم أو يدعي أنه يملك النفع أو الضر لنفسه أولغيره.
ومما يلاحظ عن بعض شيوخ الطرق أنهم مقابل ادعائهم الافتقار والزهد مقبلون على الدنيا أشد الإقبال وبنهم ، يلبسون أفخر اللباس ، ويركبون أفهر المراكب ، ويجوبون الأرض طولا وعرضا يسيحون فيها سياحة ملذة ورخاء ، وفي مريديهم المحاويج الذين تمتنع عنهم اللقمة . ولقد استبدل بعض الشيوخ ما كان لمن قبلهم من ثياب خشنة ومرقعة بأثواب تبدو في شكلها مرقعات ،وهي من أرفع وأجود الثياب يتظاهرون وهي عليهم بالفقرالمزيف الذي يصرف الأنظار عما هم فيه من رفه و رغد عيش وهم ييدعون تربية مريدهم على الزهد ويسمونهم فقراء .
وخلاصة القول أنه لا يحق لأصحاب الطرق شيوخا أو مريدين أن تغريهم عقدة تزكية أنفسهم باستئنارهم بمعرفة أسرار وهمية لا يعرفها غيرهم ، والتباهي عليهم برهافة أذواقهم وسموها مقابل تجهيلهم واحتقارهم ، والاستعلاء عليهم بما يتوهمونه في أنفسهم علوا وغرورا واستكبارا والله تعالى يقول : (( ألم تر إلى الذين يزكّون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا )) .
ومن باب إسداء النصح الواجب شرعا على كل مسلم لأخيه المسلم أن نقول لكل من تركبه عقدة تزكية النفس في تدينه أن يتذكر بأن الخطيئة والذنب مكتوبان على بني آدم لا ينجو منهما أحد إلا من نجاه الله سبحانه وتعالى بتوبة يتوبها ورحمة منه يتفضل بها عليه ، وأن الإنسان يكون إنما سويا دون عقدة تزكية نفسه ما رضي ببشريته ، ولم تتق نفسه إلى ما فوقها ،وإلا فإنه سيتردى إلى ما دونها وهو في غفلة عن ذلك . وحسب بني آدم أن عقدة تزكية النفس هي ما حرم إبليس اللعين من رحمة الله تعالى حرمانا أبديا ، وهي ما أخرج آدم وزوجه عليهما السلام من الجنة لولا أن تداركهما الله تعالى بلطفه ورحمته وعلمهما كلمات كانت سبب توبتهما من خطيئتهما . فليتق الله تعالى كل من حدثته نفسه بتزكيتها أيا كان طرقيا أو غير طرقي لأن ذلك من عمل الشيطان الذي أمر الله تعالى الناس باتخاذه عدوا ، ومن لم يتخذ عدوا وقع في حبائله، ولقي مصيره وبئس المصير.
وسوم: العدد 1095