‏ذكريات ضابط مجند

الموت وأدا، أو الدفن حيا، من أقسى طرق القتل…

‏في ٨ / ١/ ١٩٧٣ كنت طالبَ ضابط، مجندا في الجيش العربي السوري.

‏كنا ما زلنا طلابا في مدرسة المدفعية المضادة للطائرات. "اليهودية" في مدخل مدينة اللاذقية من جهة حلب.

‏في الساعة الواحدة والنصف تقريبا من ظهيرة ذلك التاريخ، وكان يوما مشمسا، وكان عندنا حصة توجيه معنوي، فخرج بنا الملازم الأول "معز" ليلقي علينا هراءه البعثي في الهواء الطلق.

‏حوالي الساعة الواحدة والنصف، رفعنا رؤوسنا فوجدنا سماء المدرسة يعج بالطائرات، عرفنا على التو أنها طائرات معادية. في ذلك العصر لم يكن لنا عدو يغزونا غير العدو الصهيوني، أول ما فعله الملازم أول "معز" وهو آمرنا، أنه بقفزتين سريعتين صار خارج سور المدرسة عبر القفز فوق السلك الشائك.

‏كقطيع خراف غير مدرب، نزلنا في أقرب خندق منا، وتكدسنا فيه كما كنا نتكدس أمام باب فرن للحصول على خمس أرغفة خبز ذلك الزمان. لم تكتمل الدقيقة حتى سمعنا صوت طائرة الفانتوم "الشبح" تنقض علينا فتقصفنا بطريقة لا أستطيع وصفها. اخترقتنا القذائف قتلت وجرحت، وانقلبت الأرض علينا، فارتفعت فوق في السماء ثم نزلت مثل الهدم فوق رؤوسنا، فمن بقي منا حيا، وجد نفسه تحت الردم، يعالج نَفَسَا لا يستطيعه، فيمتلئ فمه وحلقه ورئتاه بالتراب ويبدأ بالتلجلج والانتفاض. بعد دقيقة واحدة من القصف الأول تنقض على مجموعتنا التي كانت الهدف البشري المتاح للطيران المعادي، وتنقض طائرة أخرى، وبينما نحن نتلجلج في خندقنا بصعوبة، أقصد من بقي منا حيا. كان جورج الأقرب إلي، والذي كُسرت ساقاه، فكان يبكي بحرقة ويرفع صوته ينادي بطفولية على أبيه وأمه، فأرد عليه بسذاجة أكبر: وحد الله يا جورج. وكان الذي يليه رفيق فصيلتنا اسحق القادم من منطقة القامشلي وقد غارت به الأرض، وبقينا شهرا بعد العملية ننتظر خبر العثور على جثمانه… ولم أسمع بعد ذلك أنهم عثروا على غير حذائه العسكري.

‏وبقينا بعد ذلك شهرا نتنخم ترابا يخرج من صدورنا عبر أنوفنا وأفواهنا. أردت أن أحكي لكم أن الموت تحت الردم من أشد أشكال الموت قسوة، في بعض الأحوال قد لا تصل القذائف إلى جسد المستهدف، ولكنها تنفذ عليه عملية وأد، الدفن حيا، وقد جربته وأنا في الخامسة والعشرين…

‏يقول الرسول صلى الله عليه وسلم بينا رجل يجر ثوبه خيلاء ساخت به الأرض فهو يتلجلج فيها إلى يوم القيامة…

‏تأمل لفظ يتلجلج، وتذكر قولهم: الحق أبلج والباطل لجلج..

‏رحم الله شهداء سورية كم قضى منهم أطفالا ونساء وأطفالا تحت وطأة براميلهم وطيرانهم.

(إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ)

‏راجع تفسيرها رجاء

-------------------------

‏تذكر في يوم ٢٨/ أيلول ذكريان: يوم انفصال سورية عن مصر، وأنا فرحت بيوم الوحدة أكثر.

‏ووفاة جمال عبد الناصر: وقد أفضى إلى ما قدم.

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 1096