تفخيخ "الطوفان"
أَطْبَقَ عامة علماء الإسلام، كشيخ الإسلام الأكبر ابن تيمية وغيره، على تعليق الحدود الشرعية في أيام: الحرب، والنوازل؛ لحاجة الأمة بمجموعها آنذاك إلى الوحدة أمام عَدوهم، وأمام ما نزل بهم من وباء، ولَحِق بهم من زلزال، فنُقدِّم واجب توحيد الأمة على واجب إنفاذ القَصاص إلى قَدَرٍ معلوم.
فإذا كانت حدود الله الشرعية -على تغليظ تحذير اللهِ من تَعَدِّيها ومُجَاوزتها بغير علة- تؤجَّل إلى ما بعد انتهاء الحرب، أَوَليس نَبْذ الخلافات المذهبية والسياسية، سواء المُعتَبرة أم غير المعتبرة، أَوْلَى بالترك الآن أيضًا!!
ذلك أنَّ الحرص الزائد قد يَقْتل المحروصَ عليهم، كما أن الإهمال الزائد أيضًا قَتَّال لهم؛ فالكلمة التي تقال إنما هي بمنزلة الدواء الذي إنْ شُرِب في الوقت الخطأ أمرضَ الجسد وأوجع المعدة، وإنْ شُرِب بعد انتهاء مدة صلاحيته عُدِمَ تأثيره العلاجي المنشود.
وفي أيام الصبر هذه، يكون الضابط الدقيق لقول الكلمة، أو الإمساك عنها، هو ما يَقتضيه "واجب الوقت" الذي يحض على أن نكون رِدْءًا للمجاهدين، وأن نُنحي الخلافات جانبًا، بل لو لم توجد رخصة للمجاهدين الصائلين عن دمائهم وأموالهم وأعراضهم، لَوَجب علينا أنْ نُوجِد لهم تلك الرخصة؛ لأنهم في حالة حرب نيابة عن الأمة كافة، تَخْريجًا على أصل: ".. فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ ۙ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" [المائدة: 3].
فكيف حين تخرج تلك الكلمات المُفرِّقة للجماعة في حق مسلم استعان بمسلم على جهاد صهاينة!!!
ومِن إدراكٍ خبيث لذلك، احتال الصهاينة (الوحدة 8200) لتشتيت صفوف الأمة -بمذاهبها كافة- بتلبيس نصوص الشريعة على المسلمين؛ فاحتجوا على الباطل بالحق! فأشاعوا حقًّا أُرِيد به باطل؛ تفريقًا لجماعة المؤمنين عن التوحد على عداوة الاحتلال، إلى عداوة بعضهم بعضًا بالخوض في نقاشات حامية الوطيس على عُهْدة أن النصرة لا تُرجَى من فلان! وأن تلك مسرحية مدبَّرة بالاتفاق مع الصهاينة، وأن قتلاهم ليسواء بشهداء!!
لكنْ يَغْفُل أولئك الواقعون في المصيدة أنه كثيرًا ما يكون كشف العدو لمؤامرته أمام الناس هو المؤامرة الحقيقية بعينها، تمامًا كالذي يصنع فخًّا مزيفًا علنيًّا ليراه الجميع، وينتبهوا عليه، على حين أن الفخ الحقيقي يكمن في اعتقاد ذلك؛ لتمويه الفخ الحقيقي عن أن تَفطن إليه العقول المراقبة.
على أنَّ ثمة فضلاء لهم أيادٍ خَيِّرة مشهودة في أشتات ساحات الدعوة تورطوا في دخول المصيدة، ويَقتضينا الإنصاف لهم أن نُظهِر غلط تصورهم مع مراعاة أنَّ مَن كَثُرت خيراته عُذِرت زلاته، لكن يبقى السؤال عن سهولة استدراجهم محيرًا، وخاصة أن منهم الفقهاء والأكاديميين، فما السبب وهم فرسان الدعوة، ونجوم الحِجَاج العلمي عن الديانة؟
ليس الجواب عصيًّا على الاستيعاب إذا علمنا أن ابن خلدون -الذي جمع بين الاشتغال بالإفتاء الفقهي، ثم العمل السياسي لاحقًا- قرر في "المقدمة" عدم مُنَاسَبة الـمَنَاطقة والمفكرين والفقهاء للعمل السياسي، مُعلِّلًا ذلك في كلام طويل.
وفي الجملة، فإن الأكاديمي تَغْلب عليه النزعة الأكاديمية في حركة عقله، وكذلك المشتغل بالنظر الفقهي الـمُجرد؛ وبذلك تكون عقولهم مَجْبولة على سلوك التفكير المنطقي في دراسة علوم المادة، أو استخراج دليل الشارع، وهذا مِنَ التعارض مع السياسة في نهاية! فالسياسة لا تجري على قانون المنطق، بل على قانون الممكن وعقد التحالفات.
فكيف بالحال مع "السياسة الشرعية" التي تقتضي أَقْيسة بالغة الحساسية؛ لأنها لا تَنـِي في ثوابت الإسلام، مع تقدير أحوال الأمة، ومصالحها الإستراتيجية، وفقه واقعها، وواجب المرحلة، والمصلحة المتأخرة، وهذا لا طاقة للكل على إحكام مَشَاربه بحنكة مُسدَّدة!
وسوم: العدد 1098