أفق!!!

لهذه اللفظة في تشكل وعيي الشخصي تاريخ..

أول مرة مرت معنا لفظة أفق، كنا في الصف الثالث الابتدائي..

أراد المعلم أن يشرحها، فقال عندما نقف على طريق طويل مفتوح، فننظر في آخره، فماذا نرى؟؟ ترددنا في الجواب، ثم استقررنا بمساعدة المعلم، على أننا نرى طرفي الطريق قد اجتمعا، ونرى أيضا، أن الأرض والسماء قد التصقتا..!! قال المعلم: الأفق هو الخط الذي يبدو لنا عن بعد، وكأن الأرض عنده التصقت بالسماء، وكلما كانت المسافة أمامنا مفتوحة أكثر، بدا الأفق أمامنا أبعد…

في الصف الرابع جاءنا معلم الرسم، قال إنه سيعلمنا كيف نرسم لوحة طبيعية..

وقف أمام اللوح، رسم مستطيلا ثم قال هذه هي اللوحة، ثم أضاف أول خط يجب أن نرسمه في هذه اللوحة، هو خط الأفق..

وأمسك بيده قطعة الطباشير ورسم من يمين اللوحة إلى شمالها خطا متعوجا متكسرا…

ثم أشار إلى أعلاه فقال هذه هي السماء، وإلى أسفله فقال وهذه هي الأرض.. وهذا هو خط الأفق!!

ثم استرسل ماذا سيمتد فوق السماء؟؟ فقلنا الجبل، والهضبة!! قال وفيها؟؟ قلنا الشمس والغيوم والطيور..

لم يخطر ببالنا في ذلك العهد الطفولي، أن الطائرات المدمرة ولا المسيرة قد تسد آفاق الطفولة يوما!!

كان معلم الرسم يرسم ويبدع، ونحن نظن أننا قد أصبحنا رسامين، بما كنا نقلده على دفاتر رسمنا، كان ما نرسمه أشبه بخربشة؛ ولكن خط الأفق في عالم اللوحة عنى لنا أو لي الكثير…

هو الخط الفاصل بين ما أنت فيه أو قريب منه، وبين ما تريده أو تحلم به وتتطلع إليه.

في الصف السابع، وقد بدأت أخرج من إطار الحي والمدرسة، وأصل مستقلا حتى المركز الثقافي في مدينتي حلب، فأعبث في أرففه، وإتخير من كتبه، أجمل شيء كان في تجربة المركز الثقافي، أنه لم يكن هناك أمين للكتب. تدخل قاعة المطالعة، فتجد الأرفف منصوبة والكتب مصفوفة، تحت عناوين عامة فتنتقي ما تشاء. وفي ذلك العالم المخملي قرأت المازني والعقاد وأحمد أمين وطه حسين..

وكنت حيثما درت على الأرفف تعثرت بكتاب "آفاق لا تحد" لفؤاد صروف اللبناني. أظنه أهدى وزارة الثقافة السورية، حينها مئات النسخ، من كتابه، فبعثرتها على أرفف المكتبات..

في ساعة ضجر، وأنا في الثانية عشرة من عمري، قرأت كتاب "فؤاد صروف" الذي عنوانه "آفاق لا تحد" فشعرت أنني أركب طائرة، أو أدور في دائرة ذات قطر غير محدود..

ليس في ذاكرتي اليوم الكثير مما كتب فؤاد صروف، ولكن في أعماقي رهبة من وقفة أمام البحر المحيط…

كانت أحتاج بعد كل فقرة أو جملة أن أغمض عيني، فأسأل: ما معنى هذا؟ أو ماذا يريد هذا؟

بقراءتي كتاب فؤاد صروف، في تلك السن المبكرة جدا،تجاوزت مع لفظة "الأفق" كل الدلالات التي تعلمتها من قبل، والتي اختصرت بالمفهوم المباشر لنقطة التقاء الأرض بالسماء، أو للخط المتكسر الذي يتوسط اللوحة الطبيعية، التي كنت أحب أن أرسم فيها بحرة وجدولا وشجرة تمتد فوقا الخط وفي خلفيتها جبل، وفي زاويتها اليمنى شمس، وطيور…ثم سحب خجلى تجوب سماء مشرقة..

بقراءتي لكتاب فؤاد صروف، وأنا ابن اثنتي عشرة سنة، تحرر لفظ الأفق عندي من بعده المكاني، وحلق.. ثم حلق حتى لم أعد قادرا على اللحاق به..

كثيرا ما تكون قدماي على الأرض، وأحيانا على الحصباء، وأخرى على الرمضاء.. وثالثة في حمأة وفي طين؛ وينتهض فؤادي فأراني أحلّق وأقايس فيما وراء الخط القريب…

وكبرت وصرت أفهم أكثر قول العرب: فلان لا يرى أبعد من أنفه!! وقولهم فلان: لا يحيط بموقع قدميه، وقولهم فلان ضيق العطن، والعطن وعاء من جلد كانت تسقى فيه الإبل، وقول الفقهاء إنما الأمور بخواتمها، وقول المثقفين: فلان ضيق الأفق، وقول الرماة: فلان موقع سهمه قريب..

تبقى الوصية لرجل مثلي: إذا كنت تنظر بعيدا بعيدا فلا تغفل عن موقع قدميك..

وتذكر:

وطّئ لرجلك قبل الخطو موضعها ... فالعين تبصر ما لا تبصر القدم

بين موقع القدم ومد البصر كان يخطو البراق، يضع حافره حيث انتهى بصره. فتأمل!!

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 1103