عن (ابن تيميـــــــة) أتحدّث!

محمد عبد الشافي القوصي

محمد عبد الشافي القوصي

[email protected]

شهد القرن الثاني الهجري نشأة المذاهب الفلسفية، والفِرق الكلامية؛ كالأشاعرة، والمعتزلة، والدهرية، والقدرية، والجبرية، والمرجئة، والجهميَّة، والحلولية، وغيرها، لكنها اشتدّتْ وترعرعتْ في القرن الثالث الهجري، وبحلول القرن الرابع الهجري أخذت في التراجع والانكماش والاندثار، شأنها في ذلك شأن كثير من الموضات والتقاليع والنظريات والفلسفات التي تظهر وسرعان ما تختفي! وليس أدلّ على ذلك مما شهدته القرون الأخيرة من ولادة عشرات، بلْ مئات المذاهب والفلسفات في الشرق والغرب؛ كالكلاسيكية، والرومانتيكية، والواقعية، والماركسية، والوجودية، والرمزية، والسريالية، والبنيوية، والتفكيكية، والحداثة، وما بعد الحداثة، وهلم جرا ... لكنها تلاشت جميعها قبل نهاية القرن العشرين، ولم نسمع لها رِكزا، بلْ ذهبت ريحها، قبل ذهاب شياطينها المردة!

 الفارق بين هذه وتلك؛ أنَّ المذاهب الحديثة كانت منبثقة عن نظريات وضعية، بينما المذاهب الإسلامية، كان لها سند ديني، ومرجعية فقهية، لذا؛ كانت أبعد أثراً، وأكثر جدلاً، ومع ذلك خمدتْ بأفكارها المتطرفة. وإنْ كان كُتِبَ لها الشهرة، لكن لمْ يُكتبْ لها النجاح! لأنها لم تكن خالصة لوجه الله؛ إنما كانت أشبه بوجاهة ثقافية، وأناقة حضارية، واستعراض مذهبي، طفحتْ به الحضارة الإسلامية إبان تمددها وتبخترها بين الأمم والحضارات!

 المهم؛ أنه بعد قرابة خمسة قرون من زوال هذه المذاهب الكلامية، وعلى وجه التحديد: في القرن السابع الهجري؛ جاء ابن تيمية الحراني(661- 728هـ) فنفخ فيها من روحه، وأحياها بعد فناء، وأشعل جذوتها بعد خمود! فتلظَّى بنيرانها، كما تلظَّى مجايلوه، ومن جاءوا بعدهم بإحسان!

 يبدو أنه –رحمه الله- تاقتْ نفسه لِما ورثه عن أسرته من لفائف ومخطوطات، فقرأ التراث، ونقِّب في الحفريات؛ فعلم أنَّ القرون الماضية، والعصور الغابرة؛ شهدت مباريات كلامية، ومبارزات فلسفية، ومناورات فكرية مغرية للمثقفين أمثاله!

 فأعجبه ذلك السِّجال الكلامي، وراقه الجدال المذهبي؛ الذي دارت رحاه في القرون الأولى؛ وتمنى لوْ أنه كان طرفاً في هذا الصراع، وشريكاً في تلك المنازلات! فأراد أن يعوّض ما فاته؛ فأعاد فتح الملفات القديمة، وإعادة التحقيق مع جميع الأطراف مرة أخرى!

أجل! لقد جمع (ابن تيمية) مختلف المعارف والمصنفات التي خلَّفها أهل العصور السابقة عليه، وقرأها، ثمَّ جلس على (مقعد الناقد) فأكثر التأليف، ونظَّر المسائل، وقعَّد الأصول، وسطَّر كتبًا متعدِّدة، وأكثر من مباحث العقيدة السلفيَّة، وانبرى للردُّ على هؤلاء وأولئك؛ مخالفاً هذا، وموافقاً ذاك، ومتحفظاً على آخرين! وقد أفضنا في الحديث عن معارك ابن تيمية في كتابنا (ابن تيمية في الميزان)!

* * *

 لا نظنّ أنَّ مسلماً غيوراً على دينه؛ يختلف مع موقف ابن تيمية الفكري والفقهي تجاه المتفلسفين والمبتدعين، لكن الخلاف معه؛ أنَّ زعماء هذه المذاهب الكلامية، أمثال: واصل بن عطاء، وجهم بن صفوان، وغيلان القدري، وبِشر المريسي، والجواربي، وابن نصير، وغيرهم) لا يعرف الناس عنهم شيئاً، ولا يسمعون بهم إلاَّ في رسائل ابن تيمية وفتاواه؛ كما لمْ يسمع الناس عن (سيف الدولة، وكافور، وابن اسحق التنوخي) وغيرهم من الأمراء الصعاليك؛ لا في كتب الجغرافيا ولا في كتب التاريخ؛ إنما يقرأون عنهم في ديوان المتنبي فقط!

 ومما يؤكد أنَّ المسائل الكلامية التي أشعلها ابن تيمية، خمدتْ نيرانها وصارت رماداً قبل مجيئه بعهد بعيد، وأنَّ علماء ذلك الزمان ردُّوا أخطاء المخطئين، وغلوّ الغالين؛ هو أنَّ جميع العلماء المعاصرين لابن تيمية؛ كالإمام النووي، والذهبي، والسبكي، والفقيه ابن دقيق العيد، وغيرهم؛ لمْ يتطرقوا لهذه المسائل من قريب أوْ بعيد، ولم يشيروا إليها ولو من وراء الضمائر!

 بلْ إنَّ (ابن الجوزي) وهو من علماء القرن الخامس الهجري -أيْ قبل ابن تيمية بقرنيْن- يقول في "أدب المواعظ": "وكان فضل الله علينا عظيماً؛ أننا لمْ ندرك زمن المتكلِّمين والمتفيهقين والمتفلسفين كالخوارج والمعتزلة، وغيرهم من أهل البدع والأهواء ..".

 ليس هذا فحسب؛ بلْ إنَّ ابن تيمية نفسه، يعترف بأنَّ علماء القرون الأول؛ صنَّفوا كتباً كثيرة في الرد على مزاعم المتكلِّمين والمتفلسفين؛ فيقول في مجموع الفتاوى (9|143): "وقد صنَّف المسلمون في كشف أسرارهم، وهتك أستارهم كتَّاباً كباراً وصغاراً، وجاهدوهم باللسان واليد، ولو لم يكن إلاَّ كتاب "كشف الأسرار وهتك الأستار" للقاضي أبي بكر محمد بن الطيب، وكتاب عبد الجبار بن أحمد، وكتاب أبي حامد الغزالي، وكلام أبي إسحاق، وكلام ابن فورك، والقاضي أبي يعلى، وابن عقيل، والشهرستاني، وغير هؤلاء مما يطول وصفه..".

 وقال أيضاً -رحمه الله- في مجموع الفتاوى(12|202-205): "لا ريب أن قول ابن كلاَّب والأشعري ونحوهما من المثبتة للصفات ليس هو قول الجهمية بلْ ولا المعتزلة، بلْ هؤلاء لهم مصنفات في الرد على الجهمية والمعتزلة, وبيان تضليل من نفاها؛ بلْ هم تارة يكفِّرون الجهمية والمعتزلة، وتارة يضللونهم، وابن كلاّب إمام الأشعرية أكثر مخالفة لجهم, وأقرب إلى السلف من الأشعري نفسه، والأشعري أقرب إلى السلف من القاضي أبي بكر الباقلاني، والقاضي أبو بكر وأمثاله أقرب إلى السلف من أبى المعالي وأتباعه؛ فإنَّ هؤلاء نفوا الصفات كالاستواء والوجه واليدين، ثم اختلفوا هل تتأوَّل أو تفوَّض على قولين: فأول قوليْ أبى المعالي هو تأويلها كما ذكر ذلك في الإرشاد، وآخر قوليه تحريم التأويل، ذكر ذلك في الرسالة النظامية، واستدل بإجماع السلف على أن التأويل ليس بسائغ ولا واجب".

* * *

ليس هذا فحسب؛ بلْ إننا نجده في عشرات المواضع من رسائله وكتبه وفتاواه، يثني على أئمة وعلماء العصور الأوَل، الذين جابهوا الفِرق الكلامية وأصحاب المذاهب الفلسفية، وفَّندوا مزاعمهم؛ قال رضي الله عنه: " .. ولا ريب أنَّ للأشعري في الرد على أهل البدع كلاماً حسناً، هو من الكلام المقبول الذي يحمد قائله إذا أخلص فيه النية, وله أيضاً كلام خالف به بعض السنَّة هو من الكلام المردود الذي يذم به قائله إذا أصر عليه بعد قيام الحجة, وإنَّ كان الكلام الحسن لم يخلص فيه النية والكلام السيئ كان صاحبه مجتهداً مخطئاً مفتوراً له خطأه لم يكن في واحد منهما مدح ولا ذم، بل يحمد نفس الكلام المقبول الموافق للسنة ويذم الكلام المخالف للسنة". الفتاوى الكبرى (6|696).

ليس هذا فحسب؛ بلْ إنه –رضي الله عنه- يقول بأن هذه المسائل كثيراً ما تنازع فيها السلف، ولمْ يشهد أحد منهم على أحد بكفرٍ أوْ فسقٍ أوْ معصية".

 * * *

 الحقّ أقـول: إنَّ الآراء التي طرحها ابن تيمية صواب في مجملها، لأنها توافق التصور الإسلامي الصحيح في قضايا العقيدة والشريعة معاً .. لكن الخلاف حول جدوى إنكاء الجراحات المذهبية، والمنازعات التاريخية؛ التي طواها دجى النسيان، وغربت شمسها، وأظلم ليلها ظلاماً أبدياً؛ لا تقوم منه إلاَّ على صرخة يوم النشور .. ذلك يوم التغابن!

 ليتَ (الشيخ) أخذ بـ(النصيحة الذهبية) التي وجهها إليه الإمام/ الذهبي؛ قائلاً: "فإلى متى تنبش دقائق الكفريات الفلسفية وتجهد فيها عقلك، أنتَ في عشر السبعين وقد قرب الرحيل .. يا رجل لقد بلعتَ سموم الفلاسفة ومصنَّفاتهم مرات، وكثرة إدمان السموم والله تدمِّر البدن".

أجل! لماذا تنكأ الجراح، وتفجِّر المواجع، وتجدِّد الأحزان، وتنادي على المصائب؟

يا شيخ الإسلام؛ أليستْ هذه فتنة نائمة؛ فلماذا أيقظتها؟ ولوِّثتَ قلمك بدمائها؟!

يا فيلسوف الفقهاء؛ ما جدوى هذه الحروب الفكرية والمذهبية التي أشعلتها في وقت السِّلْم؟!

يا سيدنا؛ ما الداعي لهذا الصراع المحموم، وسباق التسلُّح، ولا عدوّ هناك ولا يحزنون؟!

يا تقيّ الدِّين؛ ألستَ أنتَ القائل:"أنا لا أكفِّر أحداً من الأمة" فلماذا أخرجتَ السيف من غمده؟!

 نِعمَ الإمام المجاهد المحتسِب؛ لوْ أنه ترك المجادلات الكلامية، وعكف على تفسير القرآن الكريم؛ لأفاد الأمة كلها؛ وأصبح عمدة المفسِّرين .. لاسيما أنه الجهبذ اللغوي، والعالِم النحرير، بدلاً من خوضه معارك بلا راية، قتلاها ليسوا شهداء!!