مشهد سوريا: لماذا يتقلّب قاسم سليماني في قبره؟
حتى تتضح أكثر سلسلة العناصر التي تصنع المشهد العسكري الراهن في سوريا، بالغ التعقيد ومتسارع المتغيرات في آن معاً، بين قوى المعارضة المسلحة وقوات النظام السوري؛ وإلى أن تتبلور توازنات الأرض ومكوّنات الاشتباك وطبغرافية الأرباح والخسائر لدى الطرفين؛ قد يكون الأسلم منهجياً معالجة طائفة من الأسئلة، بالمقادير المتاحة من القراءة المتكئة على استقراء ملموس، بعيداً ما أمكن عن فرضيات مكبّلة مسبقاً بشتى نظريات المؤامرة. وكما أنّ الكثير من سمات الغموض والالتباس والتهويل تكتنف مناطق الصراع، الرمادية لتوّها أو التي لا تكفّ عن صناعة المزيد من التشويش والاضطراب؛ فإنّ قسطاً غير قليل من المنطق السليم يتوفّر، من جانب آخر موازٍ، ويسمح استطراداً ببلوغ خلاصات الحدّ الأدنى من صواب التحليل والاستنتاج.
السؤال الأوّل يخصّ السهولة المذهلة التي طبعت تقدّم ميليشيات «هيئة تحرير الشام» وكتائب «الجيش الوطني» نحو مدينة حلب في معظم أحيائها، والاستيلاء على مواقع للنظام ذات مكانة عسكرية تاريخية مثل مدرسة المشاة؛ ونحو مدينة حماة وسهل الغاب وبلدات محردة والسقيلبية، ذات الأغلبية السكانية المسيحية؛ فضلاً عن بسط السيطرة على مدن ذات رمزية وجدانية خاصة، مثل سراقب ومعرّة النعمان وكفرنبل… متّفق عليه، بادئ ذي بدء، أنّ قتالاً حقيقياً وفعلياً، فكيف بذاك الضاري أو الشرس أو الدامي، لم يقع عملياً في غالبية ساحقة من مناطق تقدّم قوى المعارضة المسلحة؛ بل بدا جلياً أنّ الانسحاب الكيفي، أو العشوائي غير المنظم، كان خيار جيش النظام وما تبقى من ميليشيات مذهبية وعناصر «الحرس الثوري الإيراني» المتحالفة معه.
الأمر الذي يفضي إلى السؤال الثاني: لماذا هذا الخيار من جانب النظام، إذا صحّ بمعنى تامّ؟ ثمة معطى أوّل، ميدانيّ المضمون والشكل معاً، هو أنّ القوى غير السورية، والإيرانية غالباً، التي كانت تقبض على مدينة حلب بالنيابة عن النظام ودفاعاً عن وجوده في المدينة، تلقت ضربات موجعة خلال الأشهر الأخيرة؛ فانسحبت مفارز «حزب الله» اللبناني إلى القصير أو إلى جنوب لبنان حيث الجبهة مشتعلة مع دولة الاحتلال، وسُحبت مكوّنات إيرانية مختلفة إلى السيدة زينب ومحيط العاصمة دمشق وبعض المناطق في محافظة درعا. المعطى الثاني هو أنّ جيش النظام المنتشر في المدينة، أو في الكليات العسكرية، كان قد سلّم المدينة إلى العهدة ذاتها التي شكّلها، وخلّفها، اللواء قاسم سليماني، خريف 2015. هذا إلى جانب ما يعانيه هذا الجيش، المتمركز في حلب وأريافها تحديداً؛ من ترهّل وتفسّخ، وانحطاط تدريب وتسليح، وهبوط معنويات، وهيمنة ميليشيات غير سورية.
تخليص أيّ شبر من قبضة نظام الاستبداد والفساد والارتهان الذي يديره آل الأسد منذ 1970 هو في صالح سوريا والسوريين
المعطى الثالث، الترجيحي هذه المرّة، هو أنّ رأس النظام السوري بشار الأسد قد تلقى، ورضخ حيال، رسائل مختلفة المصادر، روسية أساساً وتركية وإماراتية وإسرائيلية/ عن طريق وساطات أوروبية، تُلزمه باعتماد مقاربة مختلفة عن ماضي السنوات الخمس الأخيرة؛ حين أنس في نفسه الانتصار، وتعمّد «الغنج» حتى على رعاة إعادة تأهيله في أبو ظبي وعمّان مثلاً، ومضى أبعد في رفض التعاطي مع أيّ من بنود القرار الأممي 2054 لعام 2015، كما بلغ مستويات غير مسبوقة في استخدام سلاح غزو الجوار بالكبتاغون والمخدرات. في صياغة أخرى لهذا المعطى، فُرض على الأسد طراز جديد من الانحناء أمام متغيرات ما بعد «طوفان الأقصى» وإضعاف إيران و«حزب الله» وعربدة بنيامين نتنياهو بصدد «شرق أوسط جديد» وإعادة انتخاب دونالد ترامب… الأمر الذي لا يعني، بصفة أوتوماتيكية، أنّ الرعاة ألزموه بإرخاء ما تبقى له من قبضة أمام قوى المعارضة المسلحة، في إدلب وحلب وحماة وسواها؛ فهذه كانت مفاجِئة للجميع، بمَن فيهم الجولاني و«أبو عمشة» وأضرابهما.
السؤال الثالث يخصّ القوى الخارجية الفاعلة في المشهد العسكري الراهن، حيث في الوسع الافتراض بيُسر كافٍ أنّ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ليس محرّك الدينامية السياسية التي تتراكم تباعاً جرّاء عمليتَيْ «ردع العدوان» و«فجر الحرّية» بعواقبها المتعاظمة ساعة بعد أخرى ويوماً بعد آخر، فحسب؛ بل الأرجح أنه سوف يخرج بصفة الرابح الأوّل، وربما الأكبر، حين تسكت المدافع. لقد قرأ جيداً متغيرات المشهد الإقليمية وما تسفر عنه من إضعاف هنا أو تقوية هناك؛ واتكأ على رفض الأسد، ضمن سياق «الغنج» إياه، الحوار والتطبيع وترسيم العلاقة مع «قسد» ومن ورائها جبل قنديل وقيادة الـPKK؛ كما استبق تنصيب ترامب في رئاسة الولايات المتحدة، لجهة نفور الأخير من إبقاء الـ900 مقاتل أمريكي في سوريا وما يعنيه ذلك من انكشاف ظهر القوى الكردية المسلحة.
وضمن السؤال ذاته، لا يصحّ استكشاف موقف الكرملين من تطورات الميدان العسكري الأخيرة بمعزل عن طارئ حاسم: إعادة قسط، غير قليل أبداً، من القوات الروسية المتواجدة على الأرض السورية، إلى ميادين قتال موسكو في أوكرانيا؛ ولعلّ وجود سرب روسي واحد فقط (12 طائرة) في مطار حميميم اليوم، ثمّ سحب البوارج والسفن الحربية من ميناء طرطوس إلى بحار روسيا وأوكرانيا، ثمّ اللغة الدبلوماسية الخجولة التي طبعت تعليقات الكرملين على انهيارات النظام العسكرية في سوريا، وصولاً إلى اكتفاء الطيران الروسي بقصف مواقع مدنية في محافظة إدلب جرياً على نهج قديم غير مستجدّ البتة… كلّ هذه، وسواها، معطيات تقول إنّ موسكو تغضّ معظم النظر عن مشروع أردوغان، إذا لم تكن تُدرجه ضمناً.
السؤال الرابع يظلّ ذاك المتصل بمصير النظام ورأسه، والإجابة هنا يصحّ أن ترتبط بالوقائع المتسارعة خلال الأيام المقبلة، غير القصيرة والطويلة استطراداً، لسبب جوهري أوّل هو أنّ القوى الفاعلة في تحريك المشهد العسكري (تركيا وروسيا أساساً) ليست في وارد إسقاط النظام، وأنقرة تحديداً لم تعتمد هذا الخيار في أيّ يوم. و«تأديب» الأسد، كي ينضبط أكثر في سياقات إقليمية متبدلة وتتبدل سريعاً؛ أو إقطاع تركيا مئات الكيلومترات الإضافية في محيط حلب وإدلب وحماة، لإتاحة الفرصة أما إعادة مئات آلاف اللاجئين السوريين؛ أو تسليم قوى المعارضة المسلحة أوراق تفاوض أعلى تأثيراً في الضغط على النظام، وعلى حواضنه العسكرية والسياسية والمناطقية؛ وتفكيك أقصى ما يمكن تفكيكه من نفوذ إيران المباشر، أو الوسيط عن طريق الميليشيات المذهبية… كلّ هذه العناصر، وسواها، لا تُفضي بالضرورة إلى مآل إسقاط النظام، ولا تعني ذلك أساساً!
يبقى سؤال خامس، حول مستقبل المناطق التي استولت عليها قوى المعارضة المسلحة، وميزان السلبيات والإيجابيات في هيمنة القوى الإسلامية والجهادية داخلها. وهذه سطور تعتبر، من حيث المبدأ، أنّ تخليص أيّ شبر من قبضة نظام الاستبداد والفساد والارتهان الذي يديره آل الأسد منذ 1970 هو في صالح سوريا والسوريين، والأسئلة الخمسة هذه كفيلة بأن يتقلب اللواء قاسم سليماني في قبره، بوصفه الفاتح الذي أشرف على إسقاط حلب في يد النظام السوري، وتجبّر في شوارعها وتبختر. لكنّ هذه السطور ترفض على نحو مطلق، وتتخوّف من، تحويل حلب إلى إمارة إسلاموية وجهادية على غرار ما شهدته إدلب ساعة وقوعها في قبضة «جبهة النصرة»؛ وليس كافياً أن يخلع الجولاني لباس الطالبان ويرتدي الجينز مثلاً، ويخاطب رئيس الحكومة العراقية، كي يمنح السوريين أية درجة من الاطمئنان إلى الحدود المطلوبة العليا، وليس الدنيا وحدها، من مطامح انتفاضة 2011 الشعبية، حول حقوق الإنسان والمواطنة والمساواة والتعددية الدينية والإثنية وحرية التعبير والديمقراطية.
وسوم: العدد 1106