كرد عفرين ضحايا الشعارات الشعبوية والانتهاكات المستمرة

تناقلت وكالات الأنباء العالمية ووسائل التواصل الاجتماعي الصور المفجعة للنازحين الكرد من منطقتي الشهباء وتل رفعت (ريف محافظة حلب)، ومن الأشرفية والشيخ مقصود في حلب المدينة نفسها، الذين أُخرجوا عنوة؛ أو خرجوا خوفاً على حياتهم وأعراضهم، وهم يتوجهون بكل وسائط النقل البدائية الممكنة نحو مجهول جديد لا يبشّر بأي شيء.

صور مؤلمة، تجسّد المعاناة والقهر السوريين بصورة عامة على 14 عاماً، والمعاناة العفرينية على وجه التحديد التي بلغت ذروتها مع دخول الفصائل المسلحة إلى منطقة عفرين بعد سيطرة القوات التركية عليها في أوائل عام 2018.

والجدير بالذكر هنا هو أن بعض تلك الفصائل عاثت فساداً في المنطقة؛ إذ نكلت بأهلها، واعتدت على أملاك الناس وأعراضهم، وأقدمت على قتل واعتقال العديد منهم غطرسة، أو بموجب تهم جاهزة مفبركة. وقد تناولنا هذا الموضوع في مناسبات عدة، وطالبنا المجلس الإسلامي السوري بالتدخل بناء على نفوذه؛ كما حملنا السلطات التركية المسؤولية باعتبارها القوة المهيمنة في المنطقة، الموجودة بقواتها العسكرية وأجهزتها الأمنية، وهي قادرة على ضبط المسلحين السوريين التابعين لها.

لسنا هنا في صدد تناول التفاصيل التي أدت إلى مأساة عفرين، ودور الواجهات السورية لـ “حزب العمال الكردستاني” في ذلك، وهي الواجهات التي دخلت إلى المناطق الكردية السورية، ومنها عفرين بناء على اتفاقيات أمنية مع سلطة بشار الأسد.

فقد رفعت تلك الواجهات في عفرين شعارات أكبر من حجمها وقدرتها على حماية المنطقة، وأقدمت على ممارسات شاذة بهدف دق إسفين بين العرب والكرد السوريين، وحرصت على إبعاد كرد عفرين عن الثورة السورية. وادعت باستمرار بأنها ستجعل من عفرين ميداناً ثورياً لمواجهة الخطر التركي. ولكن ما أن جدّ الجدّ كما يقال، وكانت ساعة المواجهة، وتقديم كشف الحساب، حتى لاذت بالفرار. ولكنها تمكنت عبر ماكينتها الإعلامية، وقنواتها الأمنية من توجيه قسم كبير من المدنيين الكرد المغلوبين على أمرهم نحو المخيمات وأماكن اللجوء في الشهباء وتل رفعت والشيخ مقصود والأشرفية، وحتى في منطقة الجزيرة وغيرها من المناطق.

هذا رغم المطالبات الكثيرة من جانب أبناء المنطقة، ومن قبل الحريصين على عفرين وأهلها، بضرورة بقاء الأهالي في مساكنهم، ورعاية ممتلكاتهم والتمسّك بها، وتحمّل الظروف الصعبة التي كانت تهددهم. فتلك الظروف كانت، رغم كل شيء، أقل وطأة من النزوح واللجوء. خاصة وأن الأمثلة في منطقتنا كثيرة وقاسية؛ ونذكر على سبيل المثال لا الحصر: تجربة النازحين واللاجئين الفلسطينيين سواء في الداخل الوطني أم الجوار الإقليمي عام 1948؛ وتجربة النازحين السوريين عام 1967؛ وتجربة النازحين والمهجرين اللبنانيين خلال الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975، والحروب اللاحقة؛ وتجارب اللاجئين والنازحين العراقيين. وهي كلها تجارب تؤكد أن من يخرج من أرضه، ويترك مسكنه يتعرض لسائر صنوف العذاب والإذلال.

رغم كل التحذيرات المأتي على ذكرها، أصرّ “حزب العمال الكردستاني” على اتخاذ ورقة النازحين والمهجرين من منطقة عفرين، ورقة دعائية إعلامية، وحتى ورقة للكسب المادي والحزبي من خلال الحصول على المساعدات من المنظمات الدولية، والتحكّم بتوزيعها لكسب الأنصار، أو الاستفادة من قسم منها لصالح أشخاص متنفذين، أو لصالح التنظيم ككل.

واليوم، وفي أجواء عملية “ردع العدوان” التي أسفرت عن خروج قوات السلطة الأسدية وداعميها من القوات الإيرانية وأذرعها من مدينة حلب، وسيطرة قوات “هيئة تحرير الشام” والفصائل المتحالفة معها على المدينة، إلى جانب عملية “فجر الحرية” التي أقدمت عليها فصائل “الجيش الوطني” المدعوم تركياً، وهي العملية التي استهدفت المناطق التي تهيمن عليها واجهات حزب العمال الكردستاني، ومنها منطقة تل رفعت، كان من المفروض أن يتم توجيه سكان عفرين نحو موطنهم الأصلي وذلك رحمة بهم، وبهدف وضع حدٍ لمأساتهم وعذاباتهم، وقطع الطريق أمام أي تغيير ديموغرافي، لن يكون أبداً في صالح المشروع الوطني السوري الذي به وحده يكون خلاص السوريين مع الحفاظ على وحدة وسلامة وطنهم.

وقد كانت الامكانيات الواقعية المقبولة متوفرة، وكانت هناك دعوات علنية من جانب الفعاليات المجتمعية في منطقة عفرين تدعو إلى ذلك. إلا أن حزب العمال أصر ثانية على دفع نازحي عفرين التائهين، المغلوبين على أمرهم نحو الاتجاه الخطأ. فكانت القوافل الطويلة منهم تنتظر أمام مدخل الطبقة تمهيدا للاستقرار المؤقت في الطبقة ذاتها، أو متابعة الطريق نحو منطقة الجزيرة، حيث ينتظرهم البؤس والفاقة، والحنين القاتل للأرض التي عشقوها وعشقتهم.

قضية نازحي عفرين هي قضية وطنية سورية عامة لا تخص الكرد وحدهم (شأنها في ذلك شأن القضية الكردية السورية بصورة عامة)، لأن تبعاتها الكارثية ستنعكس مستقبلاً على الواقع السوري، وستصبح سبقاً يقارن به أو يُبنى عليه. لذلك لا بد أن تتضافر جهود الوطنيين السوريين بغض النظر عن خلفياتهم المجتمعية والدينية والمذهبية والسياسية والفكرية، لا سيما من النخب السياسية والمجتمعية والاقتصادية والثقافية والفنية…الخ، وترتفع أصواتهم عالياً مطالبة بوضع حد لمأساة كرد عفرين، وانصافهم، واحترام حقوقهم الإنسانية والقومية والوطنية. هذه مسؤولية وطنية ملزمة للجميع، ولا يمكن لأي متنصل منها أن يقنعنا بحرصه على مستقبل سوريا وأهلها، ووحدتها بالفعل لا بالشعارات.

وبهذه المناسبة، لا بد أن يتحمّل الجانب التركي مسؤولياته، ويضغط بحزم على الفصائل المرتبطة به من جهة الدعم والتوجيه والتعليمات، لتلزم عناصرها بضرورة التخلي عن عقلية “الغزو”، و”ثقافة الكراهية والحقد” في تعاملها مع الكرد في منطقة عفرين، ورفع اليد عن بيوتهم وممتلكاتهم. فتركيا بخطوة مطلوبة كهذه ستكسب ود السوريين عامة، والكرد منهم على وجه التخصيص. أما تجاهل الوضع، وغض النظر عن كل الانتهاكات التي ارتكبت، وترتكب، بحق أهالي عفرين من جانب الفصائل المحسوبة عليها، وهي انتهاكات وثقتها العديد من المنظمات الدولية المختصة بقضايا حقوق الإنسان، فهذا فحواه استمرارية مأساة الأهل في عفرين وتفاقمها، وفتح الطريق أمام “حزب العمال الكردستاني” وحلفائه الأصليين، لاستغلال هذا الوضع بغية استخدامه في خططهم التي لم تجلب أصلاً سوى الويلات للكرد في كل مكان.

أما الجانب الأمريكي باعتباره الجانب الأكثر تأثيرا في الوضع السوري، رغم محدودية تواجده البشري على الأرض، فلديه مسؤولية كبرى في هذا المجال، وذلك باعتباره يمتلك أدوات الضغط على “قسد” وعلى بعض الفصائل المسلحة السورية، وعلى الحكومة التركية نفسها. ويستطيع في ضوء الاصطفافات الجديدة الحاصلة دولياً وإقليمياً ومحلياً في الملف السوري، لا سيما في أجواء تقدم قوات “هيئة تحرير الشام” والفصائل المتحالفة معها، ووصولها إلى حمص، بعد سيطرتها على محافظات إدلب وحلب وحماة، أن يتدخل، ويقنع جميع الأطراف بضرورة وضع حل عادل لقضية كرد عفرين الذين تعرضوا، ويتعرضون، لأسوأ الظروف المعيشية والتهديدات المستمرة منذ أوائل عام 2018. كما تعرضوا للكثير من القمع والتسلط في ظروف هيمنة “حزب العمال” على المنطقة الذي كان يرفع حينها شعارات شعبوية، كعادته، أثبتت الأيام أنها كانت مجرد وسيلة للتضليل، بغية وضع المنطقة وأهلها في خدمة مشاريع لم تكن، ولن تكون، لصالح الكرد السوريين على وجه التخصيص، ولا لصالح السوريين على وجه العموم.

وسوم: العدد 1106