سوريا 2024: منعطفات سبقت العاقبة الماحقة

بدأ عام 2024 السوري بقرار «برنامج الأغذية العالمي» إنهاء برامج المساعدات التي كان يقدمها إلى سوريا، بصرف النظر عن خرائط قوى السيطرة الفعلية على الأرض، وكان سبب التوقيف المعلن (الوحيد، تقريباً) هو تقلّص الميزانيات اللازمة للاستمرار في العام المقبل 2025. لكن معطيات البرنامج الخاصة بسوريا ظلت، من جانبها، تعلن أنّ كان أكثر من نصف سكان سوريا ـ 12.9 مليون شخص ـ يعانون انعدام الأمن الغذائي، وأنّ 3 ملايين شخص يعيشون ظروف جوع حادة، وأكثر من 90٪ من السكان هم فعلياً تحت خط الفقر المعرّف أممياً، ويحتاج 70٪ منهم إلى مساعدات إنسانية متفاوتة النوعية والحجم.

كان هذا القرار بمثابة مؤشّر أوّل مبكّر على منعطف، اقتصادي ومعاشي حاسم، سوف يتكفل بانطواء 54 سنة من نظام «الحركة التصحيحية» الذي دشنه الأسد الأب في انقلاب 16 تشرين الثاني (نوفمبر) 1970، وتابعه وريثه الأسد الابن، وحفنة من أًسَر النهب المافيوزية أمثال آل مخلوف وآل شاليش وآل خدام وآل الأخرس. نظام أقعد الاقتصاد السوري عقداً بعد آخر، صورته الأوضح كانت هبوط الليرة السورية إلى درك مريع بمعدّل 141٪ مقابل الدولار الأمريكي، وارتفاع تضخم أسعار المستهلكين بنسبة 93٪..

وجهة أخرى في النظر إلى القرار ذاته تفضي إلى كيل الأمم المتحدة بأكثر من مكيال، غير شرعي وغير أخلاقي، في توزيع المساعدات وتمرير الكثير منها عبر أجهزة النظام، التي لم تعد رهينة الفساد وحده بل احتكار النهب واقتصاره تدريجياً على بيت السلطة الأوّل، عبر شبكات زوجة الأسد أسماء الأخرس، مثل «الأمانة السورية للتنمية» أو حتى الهلال الأحمر السوري؛ أو عبر ميليشيات في منطقة الساحل السوري وبادية حماة وتدمر، مثل «الدفاع الوطني». الأرقام تشير إلى أن المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، أو منظمة الصحة العالمية، أو اليونسيف، أو صندوق الأمم المتحدة للسكان؛ تعاملت مالياً مع، بمعنى أنها منحت مساعدات مالية إلى، أزلام النظام ورجال الأعمال المرتبطين بشبكات الفساد والنهب.

وجهة ثالثة هي أنّ لعاب أجهزة النظام أخذ يسيل على ملايين المساعدات الأممية لأنّ منابع النهب ما فتئت تجفّ وتنحسر وتتضاءل، الأمر الذي ظلّ يدفع الفرقة الرابعة وحلفاء التهريب أمثال «حزب الله» والفصائل المذهبية العراقية إلى حدود قصوى في تهريب الكبتاغون؛ ليس عبر ميناءي اللاذقية وطرطوس والقلمون وريف درعا ونسب واللجاة فقط، بل كذلك باعتماد طرق تهريب في البوكمال شمال شرقي سوريا وخطوط العراق نحو دول الخليج العربي. لكنّ عشرات المليارات التي ظلت تجارة الكبتاغون تدرّها على النظام وتجاوزت بكثير كلّ ما تبقى للبلد من مداخيل وصادرات، توجّب موضوعياً أن تكبّل جهود أنظمة عربية سعت إلى إعادة تأهيل نظام الأسد بعد استئناف عضويته في الجامعة العربية، وأقنعت الأخير بتفضيل تصدير المخدرات على استقبال ما أسماه بعض المطبّعين «شريان حياة» لا يتجاوز حفنة مليارات.

في مطلع نيسان (أبريل) 2024 وُضعت على المحك سياسة نأي بالنفس، عن حرب الإبادة الإسرائيلية ضد قطاع غزة، اعتمدها النظام منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، هازئاً بالأبواق التي ظلت على الدوام تصنّفه ضمن صفوف ما يُسمى «محور الممانعة». ولسوف ينتهي ذلك المنعطف إلى ما لا تُحمد عقباه في حسابات النظام، لأنها دشنت أولى الصدوع العميقة في العلاقة مع إيران و«الحرس الثوري» و«حزب الله» والميليشيات المذهبية المقاتلة معه. كسرت دولة الاحتلال الإسرائيلي معادلة الأسد تلك حين قصفت مبنى ملحقاً بالقنصلية الإيرانية يجاور سفارة طهران، وأسفر الاعتداء عن مقتل 16 شخصاً، في عدادهم العميد محمد رضا زاهدي القائد الكبير في «فيلق القدس» و«الحرس الثوري» الإيراني.

كان أكثر من نصف سكان سوريا ـ 12.9 مليون شخص ـ يعانون انعدام الأمن الغذائي، وأنّ 3 ملايين شخص يعيشون ظروف جوع حادة، وأكثر من 90٪ من السكان هم فعلياً تحت خط الفقر المعرّف أممياً

العواقب سوف تكون وخيمة، في إجبار النظام على سداد أثمان رأت دولة الاحتلال أنها جزاء وفاقاً على فتح أراضي سوريا على مصراعيها أمام نفوذ إيران العسكري والسياسي، من جهة أولى؛ كما ستُلزم الأسد بتقديم إجابات واضحة لأنظمة عربية عرضت عليه أكثر من طوق نجاة، فتملّص من استحقاق وقف إنتاج الكبتاغون وتصديره، ولم يكن أمامه من خيار آخر سوى الإبقاء على الحاضنة الإيرانية في قلب نظامه كما في الأطراف. بيد أنّ الأمر من جهة الراعي الإيراني لم يتخذ وجهة الاكتفاء بمراقبة الحفاظ على الهيمنة الإيرانية، لأنّ تزايد المؤشرات على أصابع أجهزة النظام خلف الاختراقات الأمنية الإسرائيلية الفادحة التي أوجعت أذرع إيران في سوريا، و«حزب الله» خصوصاً؛ ألزمت طهران بطراز من تدخّل أعلى في محاسبة ضباط الأسد، ومرشدي دولة الاحتلال أو موسكو أو أنقرة أو واشنطن داخل أجهزته.

لونة الشبل كانت، أغلب الظنّ، مجرد بيدق صغير في هيكلية التحقيقات الإيرانية؛ لأنّ الآتي الأعظم سوف يتعاقب سريعاً، إلى حيث الضربة القاصمة في تمكّن دولة الاحتلال من اغتيال الأمين العام لـ«حزب الله» حسن نصر الله، بعد عملية الـ»بيجر» وليس بمعزل عن اغتيال إسماعيل هنية في قلب طهران. صحيح، بالطبع، أنّ «حزب الله» واصل سداد أثمان تورّطه في القتال إلى جانب الأسد، وانكشاف الكثير من اسراره أمام أجهزة النظام السوري غير المحصنة أبداً أمام سطوة الاستخبارات الإسرائيلية؛ إلا أنّ الصحيح الآخر هو الرقص الذي ظلّ بشار يحلم بأدائه على حبال إيرانية وروسية وأمريكية (ثمّ إسرائيلية، ضمناً واستطراداً) حفاظاً على بقاء نظامه.

وفي ملاقاة مساعٍ عربية لاسترجاع النظام و/ أو ترويضه؛ واصل الأسد ذرّ الرماد في أعين الواهمين حول اجتذابه أو إرضائه، وذلك عبر منعطف أقرب إلى مسرحية هزلية سبق أن تكررت واستُهلكت وكفّت حتى عن صناعة خبر كوميدي: انتخابات جديدة لما يُسمى بـ«مجلس الشعب» أو رهط المنافقين الكذبة الناعقين الذين يؤمنون بأنّ سوريا قليلة على الأسد الابن، وينبغي له أن يحكم العالم طولاً وعرضاً. لم يكترث الأسد حتى بإدخال تحسينات تجميلية على الوجوه القبيحة ذاتها، وبقيت على حالها «كوتا» ممثلي الأجهزة وشبكات النهب والفساد ومجرمي الحرب من الضباط المتقاعدين والمدرجين على لوائح العقوبات الغربية، ولم يتبدّل أيّ تقاسم ديني أو طائفي أو مذهبي أو مناطقي. ومع ذلك، رغم المرارة والضنك والانكسار، امتلك السوريون فرصة إضافية للضحك على هذا المجلس حين أسقط عضوية محمد حمشو، أحد ذئاب الفساد ممّن مُحقت أقدارهم في دهاليز بيت السلطة؛ بذريعة أنه… يحمل الجنسية التركية!

وليس عجباً أنّ منعطفاً، أوروبياً هذه المرّة، لعب للمفارقة دوراً في تسريع انهيار منظومة شبكات الأسد الابن، ونظام «الحركة التصحيحية» بأسره؛ تمثّل في مسعى للتطبيع مع الأسد تولاه ثمانية من وزراء الخارجية الأوروبيين، إيطاليا والنمسا وكرواتيا وسلوفاكيا وسلوفينيا واليونان وقبرص، في رسالة بهذا المعنى رُفعت أواسط تموز 2024 إلى جوزيب بوريل مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي. صحيح أنّ هذه الدول ليست ألمانيا وفرنسا وإسبانيا والبرتغال، لكنّ وجود الوزيرين الإيطالي والنمساوي ضمن اللائحة كان يفضح قسطاً غير قليل من احتمال رضا «كبار» أوروبا.

والحال أنّ أقلّ من خمسة أشهر لاحقة كانت كافية لتسفيه تقدير الوزراء الثمانية بأنّ سلطات الأسد قد استعادت السيطرة على 70٪ من أرض سوريا، لأن الانهيار الدراماتيكي السريع لأجهزة النظام وما تبقى من جيشه يوم 8 كانون الأول (ديسمبر) 2024، وفّر البرهان الساطع والصاعق على هشاشة تلك السيطرة المزعومة؛ حيث خاتمة النظام الكبرى، والعاقبة الماحقة.

وسوم: العدد 1109