بشائر الشام

بعد سقوط النظام في سورية اكتشف الناس أنه كان أبشع دكتاتورية على وجه الأرض، ولولا الإسلاميون الذين قادوا الثورة ضده وقدموا التضحيات الجسام - يؤازرهم أهل السنة هناك أساسا – ما سقط لأن أكثر من جهة إقليمية ودولية كانت تحميه لاعتبارات جيوسياسية لا تبالي بحقوق الانسان، وقد كان تحرير البلد المثخن بالجراح العميقة واحدة من آيات الله في الشام، فقد التحرير في مرحلته النهائية عنوة لكن بدون قتال كما حدث في فتح مكة فلم يقع لا قتل و لا ترويع للناس ولا نهب، وكان شعار الفاتحين "هذا يوم المرحمة لا الملحمة"، فأحيوا الهدي النبوي الكريم وكانوا قد قادوا المعركة الأخيرة وفق تخطيط محكم دقيق لم يقتصر على التحرير بل شمل الإعداد لما بعده من واجبات إعادة البناء نفسيا وميدانيا، وأبان الفاتحون عن كونهم رجال دولة أصحاب تجربة وحكمة ونظر ثاقب اكتسبوها من خلال تسييرهم للأراضي المحررة في شمال غرب سورية منذ سنوات حيث أقاموا دولة بالمواصفات الحديثة، وقد تابعت كلمة للقائد أحمد الشرع في مجلس للقيادات قبل التحرير تكلم فيها عن الحسبة والأمر والنهي وتسيير المجتمع فوجدته حاملا لفقه عميق يدل على اطلاع كبير وفهم للنصوص وللواقع يبشر بخير عميم، وقد رأينا بعد التحرير أن للثوار كفاءات كبرى استلمت المهام من أول يوم وبدأت بسط الأمن وتسيير المرافق العامة وإعادة الحياة الطبيعية في مختلف المدن،  لذلك لم تحدث أي فوضى ولا فراغ...كل هذا يطمئن العرب والمسلمين المتخوفين من الثورة المضادة وخطط محور الشر العربي المتربص بكل تجربة تحررية تستند إلى الإسلام والديمقراطية، فالحالة السورية بعيدة كل البعد عن حالات تونس ومصر والعراق وليبيا لأن سورية المحررة تقوم كلية على أنقاض النظام البائد ولا تمتّ إليه بصلة بينما سقط رأس النظام فقط في تونس ومصر حيث فازت المعارضة في الانتخابات لكن بقيت المنظومة القديمة بجيشها وشرطتها وعدالتها وإدارتها فسهل عليها إجهاض التجربة الديمقراطية والعودة إلى المربع الأول، أما العراق وليبيا فالمشكلة تكمن في التدخل العسكري وتصرفه في البلاد بعد سقوط النظام السابق، وكل هذه الحيثيات لا وجود لها في الحالة السورية رغم استمرار المخاوف المشروعة من الثورة المضادة بقيادة الأنظمة العربية المتصهينة وبإيعاز من الغرب المتربص.

ومن البشريات في سورية المحررة ذلك التسامح الذي أبدته الحكومة الجديدة مع من خدموا مع النظام السابق، من جهة، وصرامتها وحزمها مع المجرمين من  جهة ثانية، فهذه هي الحكمة وهذا هو الإنصاف والكياسة والاعتدال.

ومن أهم المكاسب في هذا السياق الضربة القاصمة التي تلقاها المشروع الإيراني في سورية  بعد تجريرها، وهو مشروع بدأ بعد قيام نظام الخميني في إيران يستهدف المنطقة العربية كلها انطلاقا من سورية التي تحالفت معها إيران وعملت على تشييعها باستقدام الشيعة من إيران والعراق ولبنان والخليج العربي وحتى من باكستان وأفغانستان "لينتصر الحسين على يزيد" بحسب تعبيرهم !!! وبالمناسبة تحالفت الشيعة الجعفرية مع الطائفة النصيرية رغم أنها في نظرها كافرة لا علاقة لها بالإسلام، والمشروع الإيراني يستهدف تغيير عقائد المسلمين، ووجهه الآخر – المشروع الصهيوني – يستهدف أرضهم، وها قد سقط سقوطا مدويا يمهد لسقوط المشروع الصهيوني.

هذا وقد ابتهج السوريون ومعهم المسلمون ببدء عودة المهجرين إلى ديارهم ورجوع العلماء العاملين إلى مساجدهم ومنابرهم ودروسهم ليستأنفوا الحياة العلمية والدعوية في البلد المحرر.

نعلم جميعا أن التحديات ضخمة متكاثرة داخليا وخارجيا، فحين يُحكم بلد بالاستبداد المنقطع النظير خمسين سنة علينا أن تتوقع فشو كثير من الأخلاق الرديئة في المجتمع تحتاج إلى وقت طويل وصبر كبير لعلاجها، إذ لا يُنتظر من المجتمع الذي تحرر حديثا من هذا الاستبداد أن يكون مجتمعا فاضلا لا يصدر منه أي فساد، بل سيكون عثرة في طريق الإصلاح، لذلك يجب التحلي بالواقعية والتقليل من الأحلام الوردية سواء بالنسية للعاملين في الميدان أو المراقبين المحبين لأهلنا في سورية.

ومما أعجبنا في القادة الذين حرروا بلدهم اعتزازهم بهويتهم ودينهم وقيمهم وذاتهم مهما استفز ذلك الغربيين مثل ما حدث مع الوزيرة الألمانية، وقد فُطر الناس على احترام الذين يحترمون مبادئهم...يحترمونهم حتى وإن لم يحبوهم.

بقيت الإشارة إلى أولئك الذين يتحركون في فضائنا العربي بما سماه الدكتور عبد الملك بومنحل "النظرية السوْفَترية" التي تحكم على الأحداث والمواقف والأشخاص بناء على ما سيكون (وهو عند أصحاب هذه النظرية كائن حتما) وليس على ما هو كائن، مفرداتهم هي: سترى، ستبدي لك الأيام، بيننا الأيام... معتنقوها لا يشاركون المسلمين أفراحهم، ولا يتمنون للشعوب الحرية والاستقرار، ولا يفسرون الأحداث تفسيرا موضوعيا تفاؤليا، بل يتخيلون الكوارث الماحقة ويتمنونها، ويلتقطون الأخبار الزائفة ويروجونها ويضخمون الأحداث الصغيرة ليبنوا عليها أدلة الصحة على توقعاتهم وتقديراتهم المستقبلية...هؤلاء فتنة أخرى تواجه الشعب السوري الشقيق لكن البشائر المبنية على الوقائع والتقديرات الميدانية هي سيدة الموقف ولن يرينا الشام إلا ما يثلج صدور قوم مؤمنين.

وسوم: العدد 1110