صياصنة والجامع العمري: الشيخ الثائر والرمز المقيم

مرفوع الرأس ومحمولاً على الأكتاف، وسط تهليل وتكبير من أبناء حوران السورية، عاد الشيخ أحمد صياصنة (79 سنة) إلى الجامع العمري الكبير في مدينة درعا، بعد 12 سنة ونيف من حياة المنفى في الأردن؛ الخيار الذي اضُطرّ إليه بسبب ملاحقته من أجهزة النظام والتنكيل به وبأسرته واغتيال ابنه، عقاباً على مواقفه المؤيدة للانتفاضة الشعبية. وفي مستهلّ تصريحاته قال الشيخ: «نحن شعب عظيم، نريد الحرية، نريد البناء، نريد الرخاء. لقد قضينا ستين عاماً تحت القهر والاستبداد، وها نحن اليوم ننتفض لنعلن للدنيا أننا نرفض الطغيان ونريد أن نكون أحراراً كما ولدتنا أمهاتنا».

وإذا كانت للشيخ رمزيته الخاصة، وهو الكفيف الثائر والإمام المدرّس ومقارع الاستبداد والفساد في حوران التي دشنت لانتفاضة وخرّ شبابها حسام عياش ومحمد الجوابرة وأيهم الحريري أوائل شهداء أجهزة النظام؛ فإنّ لمسجده العمري رمزية موازية خاصة بدورها، تنامت وترسخت منذ الأيام الأولى للانتفاضة، حين دوّن أطفال درعا على الجدران عبارة «إجاك الدور يا دكتور» فأمر رأس النظام باستخدام الرصاص الحيّ ضدّ المتظاهرين في شوارع المدينة، وأرسل وحدات خاصة لاقتحام جامع المدينة العريق وسفك المزيد من الدماء في باحته وداخل جدرانه. يومها عبر بشار الأسد نهر الروبيكون، الدامي تماماً كما يتوجب القول، لتصبح دماء السوريين هي الفاصل بينه وبين الشعب، وهي الفيصل الصريح والأقصى. ولقد دقّ، بنفسه ثلاثة مسامير كبرى في نعش عصاباته/ نظام أبيه، الذي صار آيلاً إلى سقوط، بَعُدت لحظته 14 سنة لكنها دنت في 8 كانون الأول (ديسمبر) 2024.

المسمار الأوّل كان الاطمئنان، الناجم بالضرورة عن اختلاطات الطيش والغطرسة والنرجسية، إلى أنّ هذا الحراك الشعبي، في دمشق وبانياس ودير الزور وحمص والقنيطرة، قبل درعا، لا يمثّل إلا فئة من «المندسين» و«العملاء»؛ لأنّ الشعب بأسره يحبّ «الرئيس» بدلالة ذلك الشعار الذي تغصّ به شوارع سوريا: «منحبّك»! وكان أمراً تلقائياً، أو بالأحرى غريزياً، أن يفضي ذلك الاطمئنان إلى يقين الدكتاتور، وناصحيه من شركاء النهب والحكم العائلي المافيوزي، بأنّ الردّ يحتاج إلى خيار الأرض المحروقة، والبتر المبكر، على الفور؛ من دون أي ترجيح حتى لاحتمال العلاج بالكيّ. ولقد كان مذهلاً، حتى لأصدقاء النظام الإقليميين (وكان بينهم آنذاك رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، على سبيل المثال) أن يلجأ النظام إلى الذخيرة الحية في مواجهة أوّل تظاهرة سلمية نوعية، وأن يسقط الشهداء في ساعات قليلة.

تمّ تأثيم صياصنة وصار رأسه مطلوباً، إلى درجة إعدام ابنه أسامة لأنه رفض الإفصاح عن مكان اختفاء أبيه. كذلك صار الشيخ موضوع تلفيق رخيص، وأُجبر البعض على «اعترافات» تنسب إليه تسليح «الإرهابيين» وتمويلهم

المسمار الثاني هو الاستهانة بالمغزى الرمزي، قبل ذاك الديني، لاقتحام مسجد أوى إليه جرحى ومواطنون لا يحملون حتى الحجارة، ولم يكن لهم أن يتسببوا بأي أذى للمفارز الأمنية والوحدات العسكرية التي تطوّق المسجد. ولكي تُضاف الإهانة إلى الجرح، وتُخلي المأساةُ مشهدها الدامي لصالح مهزلة ركيكة سخيفة مستهلكة، دخلت عدسات إعلام السلطة إلى المسجد و«ضبطت» الأموال والأسلحة المخزّنة هناك، والتي وصلت إلى «المندسين» من جهات خارجية. كأنّ الأسد لم يتعلّم أبسط الدروس من اتهامات مماثلة، ساقتها حينذاك سلطات الاستبداد في تونس ومصر واليمن وليبيا، ولم تعد أضحوكة المواطن العربي، والبشر في مشارق الأرض ومغاربها، فحسب؛ بل صارت مبعث اشمئزاز واحتقار.

أو، في مقارنة أخرى، كأنّ الابن نسي حرص أبيه ـ وكان أشدّ بطشاً واستشراساً في قمع الاحتجاج، أياً كانت طبيعته أو نطاقاته ـ على تفادي اقتحام المساجد، حتى حين أعطى الأوامر بقصفها، خالية كانت أم على رؤوس اللاجئين إليها من بني البشر. صحيح أنّ رهط المنافقين من المشائخ، المطبّلين المزمّرين للنظام، التزموا الصمت المطبق؛ ومثلهم فعل رجال دين وميليشيات أمثال حسن نصر الله؛ إلا أنّ اقتحام مسجد آمن مسالم كان يتجاوز بكثير حرق الأصابع جرّاء لعب الهواة بالنار. ذاك، أغلب الظنّ، ما أدركه الأب مكيافيللي النهج، وفات على الابن الوريث «الممانِع».

المسمار الثالث هو احتقار الذاكرة الشعبية السورية، عن طريق اقتراح حلول تنطلق من افتراض الدرجة صفر في الذكاء الأخلاقي للمواطن السوري، أو الدرجة ذاتها في كرامته الوطنية؛ كما حين اختار الأسد أن يكون وسيطه في الحوار مع أهل درعا هو اللواء رستم غزالي، أحد كبار أدوات الفساد والاستبداد، دون سواه! الأرجح أنّ منطق اعتماد غزالي انطلق من اعتبارات مناطقية صرفة، في طليعتها أنّ اللواء من أبناء المحافظة، وأنّ له بالتالي «موانة» على أهلها وشهدائها، أياً كانت موبقاته في قمع أبناء محافظته أنفسهم، كي لا يتحدّث المرء عن قبائح غزالي في عنجر وسائر لبنان.

وفي كلّ حال، بينما كان «الوسيط» يسعى إلى ممارسة مهاراته في التفاوض، كما اكتسبها من سيّده السابق اللواء غازي كنعان، أو من مراقبة ألاعيب أصدقائه الساسة اللبنانيين الأفاقين؛ كانت وحدات عسكرية خاصة قد تلقّت لتوّها الأوامر بحصار المدينة، وقطع الكهرباء عنها، واتصالات الهاتف الجوّال والإنترنت، تمهيداً لارتكاب المجزرة في الجامع العمري، بعد ساعات قلائل. في السياق ذاته، بدا الأسد مستعداً لتقديم كبش فداء إلى مواطني درعا، تمثّل في مرسوم إقالة المحافظ فيصل كلثوم، متناسياً أنّ أهالي المحافظة كانوا على إدراك تامّ بأنّ الأخير ليس سوى بيدق صغير في شطرنج بيت السلطة، ومسنّن أصغر في آلة الفساد الجهنمية، ومن الإهانة اعتبار إقالته بلسماً لجراح المحافظة ولأمهات الشهداء الثكالى.

والحال أنّ صياصنة كان مثالاً، بل لعله انقلب إلى أمثولة، على تخبّط سياسات الأسد الابن تجاه اتساع نطاق الانتفاضة الشعبية، إذْ أنّ إعلام النظام بدأ بإعلاء شأن الشيخ والإطناب في مديحه خلال الأيام الأولى من اندلاع تظاهرات درعا، حين كان التكتيك يقتضي مغازلة الشيخ بهدف تليين عريكته، أو لاكتسابه إلى صفّ النظام، وصولاً إلى حرق مكانته على الصعيد الشعبي. وبين ليلة وضحاها، تمّ تأثيم صياصنة وصار رأسه مطلوباً، إلى درجة إعدام ابنه أسامة في قلب الجامع العمري لأنه رفض الإفصاح عن مكان اختفاء أبيه. كذلك صار الشيخ موضوع تلفيق رخيص، وأُجبر البعض على «اعترافات» تنسب إليه تسليح «الإرهابيين» وتمويلهم؛ بل ذهب أحد أبواق النظام الإعلامية، طالب إبراهيم، إلى درجة التأكيد بأنّ المسجد العمري شهد اجتماعاً تآمرياً بين الشيخ المسلم و… «الزعيم الشيوعي» رياض الترك!

الأوّل، الشيخ صياصنة، عاد اليوم إلى بلده وأهله ومدينته ومسجده، معززاً مكرّماً، مبشّراً بمستقبل وضاء للسوريين على اختلاف أعراقهم وأديانهم ومذاهبهم وعقائدهم؛ والثاني، الترك (1930 ــ 2024) المعارض والقائد السياسي البارز الذي استحقّ اللقب الشعبي «مانديلا سوريا» قياساً على سنوات سجن طويلة ومتعاقبة امتدت نحو ربع قرن، رحل في منفاه الفرنسي ولكنه سكن عميقاً في وجدان سواد أعظم من بنات وأبناء بلده. أمّا آخر سلالة الاستبداد والعسف وجرائم الحرب الأسدية، فإنه طريد قابع في سلال مهملات التاريخ، ينتظر الحساب العسير.

الجامع العمري من جانبه ظلّ حمّال رمزيات شتى، وطنية وإنسانية وتاريخية وروحية عالية، مقيمة ومتنامية في آن؛ ليس لأنّه معلم أثري شامخ يعود الأصل في تشييده إلى الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، وشهد رعاية صحابة كبار أمثال معاذ بن جبل وأبي عبيدة بن الجراح، فحسب؛ بل لأنه، أيضاً، سجّل محطة فارقة في نقلات نظام «الحركة التصحيحية» بين الهمجية والسعار والتخبط، وبين العماء والأفول والسقوط.

وسوم: العدد 1110