مآلات تحديد الأولويات في غياب استحضار التحديات المصيرية
من البديهي أن يرتبط طموح الإنسان لتحقيق أهدافه، بتخطي مجموعة من التحديات التي غالبا ما تتناسب طرديا مع سمو هذه الأهداف ورفعتها، مما يستلزم بصفة عامة الإحاطة بكل التحديات المحتملة من جهة، وتحديد الوسائل المناسبة للتغلب على كل منها من جهة ثانية، حسب ما يتلاءم مع السياقات المصاحبة لها، مع الأخذ بالاعتبار عوامل التشعب والتداخل فيما بينها، مما يتعين معه تصنيفها بحسب رجحان وخطورة الأدوار التي يمكن أن تلعبها في عرقلة السبل المؤدية للأهداف التي تم تحديدها، ومن ثم إعداد برامج وخطط مواجهتها حسب سلم الأولويات. وإذا سلمنا بوجاهة هذه البداهة بالنسبة للأفراد، فإنها تكون بالتبع أكثر وجاهة عندما يتعلق الأمر بالدول والأمم، وعليه أعتقد أن الأمة المغربية شأنها شأن باقي الأمم معنية بها، خاصة وأن التحديات التي يعج بها واقعها أكثر من أن تُعد، إن على المستوى المادي أو المعنوي، حيث نجد من جهة تحدي الوحدة الترابية والسكن والصحة والتعليم والبنيات التحتية المادية والبشرية، ومن جهة أخرة نجد تحدي المحافظة على القيم الدينية والثوابت الوطنية للمغاربة والتماسك الأسري... مما يستلزم من صانعي القرار التوفر على رؤيا واضحة في مواجهتها، وهذا لا يتأتى إلا بتحديد أهداف قابلة للتحقق، بناء على دراسات استشرافية مستقلة عن أي تدخل أجنبي، مع حصر كل هذه التحديات وتصنيفها بحسب درجة خطورتها في إمكانية عرقلتها بلوغ هذه الأهداف، مما ييسر وضع سلم أولويات لمعالجتها. وإني لا أشك لحظة واحدة في وعي مسؤولينا بمختلف هذه التحديات، ولا في توفرهم على قائمة للأهداف والأولويات، لكن الإشكال حاصل في طبيعة الأهداف المتوخاة والشرائح المستهدفة منها لتأتي التحديات والأولويات تابعة لها.
قد يغفل المواطن العادي مثلي عن مجريات الأحداث في الكواليس، التي غالبا ما تكون وراء القرارات المتحكمة في مصير الأمة، في إطار التدافع والتنافس بين مختلف التيارات السياسية والأيديولوجية المؤثرة في موازين القوى، التي لا يمكن إنضاجها بدون أخذ مجموعة من العوامل الداخلية والخارجية على الخصوص بعين الاعتبار، لكن معاينة الإجراءات التي يتم تنزيلها في واقع المغاربة، تكشف عن التوجه العام لهذه الأحداث، إذ يلاحظ اختلاف جوهري قد يصل إلى حد التناقض بين ما يطمح له سواد الأمة المغربية، وما يشتغل عليه المسؤولون السياسيون بالخصوص، سواء تعلق الأمر بالأهداف، أو التحديات وبالضرورة الأولويات. ففي الوقت الذي يرى عموم المغاربة أن الأولوية ينبغي أن تعطى للتعليم، بدءا بمركزية اللغة العربية في التدريس، والتركيز في أهدافه الإجرائية على إلمام المتعلم بالمعلوم من الدين، ومن تاريخ الأمة المغربية بالضرورة، بالإضافة إلى تاريخ العلوم بمختلف أنواعها عبر مختلف الحقب التاريخية، للوقوف على مساهمة مختلف الحضارات في إنضاجها، وعلى رأسها الحضارة الإسلامية التي يتعمد الغرب طمس معالمها، ونسبةَ كل تقدم علمي حصريا إلى حضارته، بالإضافة إلى تزويده بمجموعة من الكفايات والمهارات الحياتية التي لا يمكن الاستغناء عنها، في المقابل نجد أن الحكومات المتعاقبة عملت على إفشال عملية التعريب، بل وتحقيره في أعين عامة الناس، في الوقت الذي فُرضت فيه اللغة الفرنسية فرضا منذ السنوات الأولى من عمر الأطفال في المدرسة، وفي نفس الاتجاه تم اختلاق لهجة جديدة لتحل محل اللهجات المغربية، أُطلق عليها ظلما وزورا اسم اللغة الأمازيغية، مع ترقيتها إلى مستوى اللغة الوطنية، هذا في الوقت الذي لا يفهمها إلا القلة القليلة من صانعيها، أما عامة المغاربة فإن فهموا منها جملة، غابت عنهم جمل كثيرة، وذلك لسبب بسيط هو تعدد اللهجات الأصلية، والاختلاف الجوهري بين عدد كبير من مفرداتها معنى ونطقا على السواء. فإذا كنتُ أنا الأمازيغي اليزناسني (نسبة إلى بني يزناسن) من جهتي الأم والأب، أبا عن جد، أجد صعوبة كبيرة في التواصل مع الريفي (نسبة إلى الريف) على الرغم من التقارب الجغرافي بين المنطقتين، ولا أفهم السوسي (نسبة إلى سوس) عندما ينطق برقم من الأرقام على سبيل المثال لا الحصر، يضاف إلى كل هذا تلك الرسوم التي أصبحت تغزو واجهات المؤسسات العمومية، ولوحات التشوير في الطرقات شيئا فشيئا. إذا كان هذا يحصل لأمازيغي قح مثلي، فما الذي يُتصور حصوله للذي لا علاقة له بأية لهجة من هذه اللهجات؟ أعتقد أنه من الناحية الوظيفية على الأقل، لا يوجد أي تبرير لاعتبار الأمازيغية أولوية يُصرف عنها من ميزانية الدولة ما يمكن صرفه في تعميم مجانية التعليم، والصحة وتجويدهما، مما سيقلص بالضرورة من جشع القطاع الخاص الذي أصبح بدوره يحتل الصدارة في سلم الأولويات، خاصة وأن الحكومة قامت مؤخرا بتوسيع نطاق الإعفاء من الضريبة على القيمة المضافة، حسب ما ورد في مقال بإحدى الجرائد الإلكترونية تحت عنوان الحكومة تقدم "هدية" للمستثمرين العقاريين في إنجاز مشاريع التعليم الخاص بتاريخ 1 فبراير 2025.
أمثلة كثيرة تتعلق بتعارض الأولويات بين المسؤولين وعموم الشعب، فعندما يتخذ بعض المسؤولين من الزنا، والإجهاض، والإفطار في رمضان، ومنع التعديد، وعدم تزويج "القاصر" تسهيل مسطرة الطلاق... أي إخراج الدين من حياة الناس، أولويات يتعين الاستماتة في الدفاع عنها، يرى غالبية المغاربة أن من أولوية الأوليات الحفاظ على الدين والاحتكام إلى تشريعاته، والتخلق بأخلاقه في المجال العام على الأقل.
ومما لا شك فيه أن كرة القدم تم تصنيفها من قبل المسؤولين ضمن الأولويات التي لا يمكن الطعن فيها، بدليل أن عددا كبيرا من مشاريع تحديث البنية التحتية من طرق وسكك حديدية، وإعادة تأهيل المدن من توسيع الأزقة، وتحرير الملك العام، وتحديث وسائل التنقل من حافلات وسيارات الأجرة...، ارتبط بالتحظير لتنظيم كأس العالم لكرة القدم. والسؤال الذي يطرح نفسه هو: هل كان بإمكان هذه المشاريع أن ترى النور في حالة عدم الظفر بتنظيم هذه الكأس؟ أليس المغاربة أهلا لها قبل وبعد التنظيم؟ أم أن أولوية توفير الظروف الملائمة للأجانب تعلو على أولويات المواطنين المغاربة؟ علما أن هذه المشاريع على أهميتها لا تخلو من سلبيات تتعلق بنزع الملكية، بالإضافة إلى تهديدها لمصادر الرزق، لعدد كبير من الباعة المتجولين ما لم تُدرج مشاكلهم ضمن الأولويات التي يتعين العمل على حلها بكيفية مستدامة، بما يسمح لهم بتوفير الحد الأدنى من وسائل العيش الكريم لعائلاتهم، عوض اللجوء إلى القوة لإجلائهم من الأماكن التي يلجؤون إليها لتدبُّر قوت يومهم، مع كل ما يصاحب ذلك من تجاوزات من قبلهم. سؤال آخر لا يقل أهمية عن السؤال السابق هو: ما مصير هذه الملاعب العملاقة التي شُرع في تشييدها، أو تلك يعاد إصلاحها وصيانتها، بعدد انتهاء منافسات كأس العالم؟ هل ستتمكن من استضافة المنافسات القوية التي تحظى بجماهير ذات إمكانيات مادية تسمح بجلب الحد الأدنى من المداخيل التي تضمن على الأقل مصاريف صيانتها؟ أم أنها ستبقى فارغة؟ أو سيتم استعمالها من قبل هذا الصنف من الجمهور الذي أصبحت ممارساته التخريبية تتسبب في خسائر مادية، ومعنوية على السواء، حتى أصبحت بعض المباريات تُجرى بدون جمهور، والأخطر في هذا كله هو هذا الإدمان المَرضي لأبنائنا على كرة القدم، الذي يتميز بالتعصب المفرط لبعض الفرق الوطنية عموما، والأجنبية خصوصا، مما يؤثر سلبا على العلاقات بين الأقران، ناهيك عن إهمال الدراسة والوقت المخصص لها. ألا يمكن التفكير في ضبط توقيت هذه الفضائيات التي أصبحت تبث مبارياتها على مدار 24 ساعة للحد من الهدر الزمني الذي تتسبب فيه، ثم ألا يكون من الأولى توجيه هذه الميزانيات الضخمة التي تصرف في هذه الملاعب التي يبدو أن مردوديتها على العنصر البشري سلبية إلى حد كبير، قلت ألا يكون من الأولى توجيهها إلى البحث العلمي الذي بدونه لا يمكن لجامعتنا تبوء المكانة اللائقة في صفوف الجامعات المرموقة، وتكتفي بتسليم شواهد بمسميات دون مسمى.
إن المتمعن في توجُّهات المغاربة حكام ومحكومين، يلاحِظ دون كبير عناء أن هناك على العموم تياران من حيث الأهداف والأولويات، بحيث يمتحها أحدهما من الغرب، ويعمل على سيادة نموذجه رغم تَيَقُّنِه من فشله في بلدانه الأصلية، خاصة فيما يتعلق بالجانب القيمي والروحي، وآخرُ يعمل على ربطها بثوابته الدينية والوطنية، متطلعا إلى إحياء مجد الأمة، بعيدا عن الاستلاب الثقافي الذي أصبح سائدا أو يكاد، خاصة لدى فئات الشباب الأغرار الذين تم تدجينهم من خلال البرامج التعليمية، ومن خلال الإعلام والمهرجانات "الثقافية" الماجنة. ويبقى في الختام توجيه الدعوة لكل الذين يقتصرون على الجانب المادي في أولوياتهم، التفكير في العواقب التي يمكن أن تترتب عن فقدان أبنائنا لدينهم وقيمهم التي بدونها لن تقوم لنا قائمة، حتى وإن توفرنا على أكبر الملاعب وأحسنها، وبنينا أكبر شبكة للطرق السيارة، ووفرنا كل مقومات الحياة المادية، ولنا الإسوة في عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما قال: "نحن قوم أعزَّنا الله بالإسلام، فمهْما ابتغينا العزَّة في غيره أذلَّنا الله".
وسوم: العدد 1114