مغربية الصحراء بين مكر فرنسا وسفاهة السياسة المغربية!

لَكمْ تم التطبيل، بالخصوص في الإعلام المغربي الرسمي، "لاعتراف" فرنسا بمغربية الصحراء، وهو ما كان يُفترض حصوله قبل هذا الوقت بمدة طويلة، لو كان لدى حكام فرنسا قليل من الاحترام للحقيقة التاريخية التي تُثبت بما لا يدع مجالا للشك بأن الصحراء كانت دائما مرتبطة بالوطن الأم، على اعتبار أن الاحتلالين الفرنسي والإسباني هما من يمتلكان كل الأرشيف المتعلق ببلدان المغرب العربي عموما، وبالصحراء المغربية خصوصا، وهي الحقيقة التي أكدتها محكمة العدل الدولية بلاهاي سنة 1975 على الرغم من الغموض "المُتعمَّد" الذي فتح المجال، ليس فقط أمام أعداء الوحدة الترابية، بل أمام أعداء وحدة المغرب العربي ككل، بحيث تُعتبر فرنسا قديما وحديثا من أهم الفاعلين الذين لم يدَّخروا، ولا يَدَّخرون جهدا لتجسيد سياسة فرِّقْ تَسُد خدمة لمصالحهم التي تتميز بالجشع والاستفراد بخيراتنا المادية والبشرية على السواء.

والسؤال الذي لا يمكن تجاهله في هذا الصدد هو: ما هي الدوافع الحقيقية التي أدت إلى هذا الاعتراف الذي تُشتَمُّ منه رائحة الغموض الذي بدا جليا في تصريح الرئيس الفرنسي أمام البرلمان المغربي باستعماله كلمة "الصحراء الغربية " عوض الصحراء المغربية؟ حيث قال: إن "مستقبل "الصحراء الغربية" لا يمكن أن يكون إلا تحت السيادة المغربية وفي إطار مقترح الحكم الذاتي الذي قدمته المملكة عام 2007"، بالإضافة إلى رائحة المكر النتنة التي أزكمت أنوف الشعب المغربي عندما بتعمده الإساءة إليه، وعدم إيلاء أدنى اعتبار لموقفه المساند لحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، عندما وصف طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر2023 بـ "الهجوم الهمجي"، أمام النواب البرلمانيين بالغرفتين، مضيفا بأن إسرائيل لها الحق في الدفاع عن نفسها، وكأنها هي صاحبة الأرض والفلسطينيون هم المستعمِرون. ولعل أخطر ما في هذا التصريح الغير بريء، هو تعميق الهوة بين عموم الشعب المغربي المتشبث بحقوق الشعب الفلسطيني من جهة، وبين الطبقة السياسية، من حكومة وبرلمانيين، التي بدت من خلال حفاوتها المبالغ فيها عند استقبال الرئيس، وكأنها على النقيض من الموقف الشعبي من جهة ثانية، وهو ما يفاقم من فقدان الثقة بين الحكام والمحكومين، علما أنه بدون هذه الثقة، ولو في حدها الأدنى، لا يمكن أن تقوم للمغرب قائمة خارج التبعية العمياء للغرب عموما ولفرنسا خصوصا.

الإجابة عن هذا السؤال تتطلب الإلمام بالمعطيات المتحكِّمة في اتخاذ القرار من الجانبين الفرنسي والمغربي، وهذا أمر يصعُب حتى على عدد كبير من المحللين السياسيين، ومع ذلك فالواقع يتيح مجموعة من المؤشرات الدالة، التي يمكن للمتتبع العادي الاستئناس بها لتلمُّس بعض عناصر هذه الإجابة.

ومن بين هذه المؤشرات تَمكُّن فرنسا من خلق نخبةٍ من رجال الأعمال والسياسة المتصدرين لمراكز القرار المغربي، والمنخرطين في تجسيد إملاءاتها التي يُؤطرها التوجه الاستعماري، الذي لم يَغِب يوما عن العلاقات غير المتكافئة بين البلدين، مهما تمت التغطية عليه باستعمال مصطلحات دبلوماسية مهذبة من قبيل الشراكة، والتعاون، والعلاقات الودية...ومن ثم فَمن الغباء اعتبار أن اعتراف فرنسا بمغربية الصحراء جاء رغبة في استكمال المغرب لوحدته الترابية بشكل نهائي يتمكن معه المغرب من التفرغ للتنمية الحقيقية إن على المستوى المادي أو البشري، بل الأمر على العكس من ذلك، بحيث لوحظ تأجيج الخلاف الحاصل في العلاقات المغربية الجزائرية، الذي كانت فرنسا على رأس مختلقيه، بالشكل الذي أصبح لدى حكام الجزائر، أكثر من أي وقت مضى، قابلية لإطلاق شرارة مواجهة عسكرية، لا قدر الله، تكون فرنسا هي المستفيد الأساسي منها من خلال صفقات عسكرية. هذا من جهة، ومن جهة ثانية، فُتح أمامها باب أوسع لتستمر في استئثارها بالمشاريع المادية الكبرى، كصناعة السيارات والسكك الحديدية، واستغلل المخزون المعدني كالفوسفاط وغيره من المعادن...ولتضمن مواصلة الاختراق الثقافي للمجتمع المغربي، وهذا هو الأخطر، عن طريق الإعلام والتعليم وعن طريق ما يَصطلِحون عليه "التبادل الثقافي" دون أن يكون تبادل بالمعنى الحقيقي للكلمة، إذا علمنا أن التبادل يكون في منحيين، وليس في منحى واحد، كما هو معمول به في العلاقات الثقافية المغربية الفرنسية. ففي الوقت الذي لا يوجد أي أثر على الشبكة العنكبوتية للمركز الثقافي المغربي اليتيم الذي كان يفترض افتتاحه سنة 2018، نجد أن المركز الثقافي الفرنسي الذي يوجد مقره في الرباط يغطي جل ربوع المملكة من خلال الفروع الثلاثة عشرة المتواجدة في أهم المدن المغربية من خلال أنشطة تصب كلها في خدمة اللغة والثقافة الفرنسيتين، مع تركيزها خلال شهر يناير المنصرم على أنشطة الثقافة الأمازيغية "احتفاء بالسنة الأمازيغية" مع العلم أن عددا من الأنشطة التي تُنسب للأمازيغية تطرح إشكالات كثيرة في علاقتها مع الثوابت الدينية والأحكام الشرعية (مهرجان بيلماون على سبيل المثال لا الحصر). ولعل من أهم ما استتبعه هذا الاعتراف، هو تدعيم هذا الحشد من الفروع بِقُرب افتتاح مركز آخر بالعيون، بحضور وزيرة الثقافة الفرنسية ونضيرها المغربي، بهدف تعزيز الحضور الثقافي الفرنسي في الأقاليم الجنوبية للمملكة.

أخيرا وإذا علمنا أن مواقف الدول الغربية، وعلى رأسها فرنسا تدور مع مصلحتها حيثما دارت انطلاقا من القاعدة المنسوبة لتشرشل"لا عداء دائم، ولا صداقة دائمة في السياسة، بل مصالح دائمة". فعلى مسؤولينا أن يعلموا، ولا أَشُكُّ في أنهم يعلمون، بأنه لولا تأكد فرنسا من ضخامة هذه المصالح المادية والثقافية على السواء، ما كان لها أن تجرأ على هذه الخطوة، ومع ذلك فالمكر من شيم الكفر، ولا أحد يضمن ديمومة هذا الاعتراف، ولنا في علاقتها المتذبذبة مع الجزائر عبرة لم أراد أن يعتبر، ومن ثم فإن كان لا بد من إبرام علاقات معها، فيتعين التعامل معها الند بالند وتجنب السفاهة التي هي من شيم المستلبين، خاصة فيما يتعلق بالجانب الثقافي، والتركيز فيها على جانب القيم والثوابت، عوض الاكتفاء بالجوانب الفلكلورية البذيئة التي يغلب ضررها على فائدتها على المدى المتوسط والبعيد.    

وسوم: العدد 1115