البصر والبصيرة
بعد أيام قليلة من انتصار الثورة السورية، قابلت صدفة( بيل) الذي كان أستاذي في معهد جورج براون لسنين خلت . بادرني بالسؤال تعقيبا على أخبار النصر، ومظاهرات الفرح التي عمت البلاد وشغلت الإعلام ، سألني : هل أنت سعيدة ؟
أجبت : طبعا !
رد بحدة وتوجس: ولكن رئيسكم داعشي!
باغتني السؤال فأجبته بسؤال آخر: ألم ترمدن الرعب والتعذيب وعالم الأقبية من مكابس بشرية ومقابر جماعية؟
لم تستطع إجابتي اختراق الجدار الأزرق في عينيه الباردتين ، بل بدا لوهلة أنه قد فقد حاستي السمع والبصر .
ويبدو أنه ليس بيل فقط من فقد هاتين الحاستين، فالقيصر قدم مايزيد عن خمسين ألف صورة توثق تصفية مئات الآلاف من المعتقلين، في مشاهد مروعة ، فأبى البعض تصديقها بل ذهب أبعد من ذلك، فاتهمه أنه السبب فيما آلت إليه البلاد من انهيار اقتصادي وما يسمى بقانون قيصر .
وفي سورة الحجر* ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكًرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون*
وهكذا فالمشكلة هي في البصيرة وليست في البصر، وهي قضية مستعصية الحل لأن مكانها القلب. وعندما تغلق منافذ القلب عن تقصي الحقيقة والانتصار لها ، تتعطل كل الجوارح وتفقد قدرتها وما خلقها الله لأجله.
وفي سورة الأعراف * لهم قلوب لايفقهون بها ولهم أعين لايبصرون بها ولهم آذان لايسمعون بها*
وصحيفة الإيكونوميست البريطانية ، وضعت الرئيس الشرع تحت عدسة المجهر في دراسة دقيقة ، فوجدت أنه يرتدي سترة كريمية !، وأن قصره(الذي بناه بعد تحرير سورية) !! كبيرجدا ، بل إنه أكبر من البيت الأبيض بستة مرات ، وأن هنالك( ركنا للصلاة) في هذا القصر المترامي الأطراف، وأنه لايوجد منافض لإطفاء السجائر، تماشيا مع رؤيته الإسلامية المتشددة !.
وبالرغم من تولي النساء والأقليات بعض المناصب في حكومة الرئيس الشرع ،إلا أن الأسئلة المتشككة ، ظلت من البنود المهمة في المقابلة .
وهكذا ففي كل مرة يهرع فيهاالغرب إلينا، فإنه يأتي مزودا برؤية مسبقة معادية ،لأنه يحمل بصيرة شانئة ممنهجة عمياء عن معرفة الحقيقة.
وفي كتب التاريخ الكثير من القصص التي تثبت عمى البصيرة رغم سلامة البصر.
والوليد بن المغيرة كان خير من وصف القرآن ، فقال فيه ، والله لقد سمعت محمدا آنفا يقول كلاما ماهو من كلام الأنس ، ولامن كلام الجن، إن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أعلاه لمثمر ، وإن أسفله لمغدق وإنه يعلو وما يعلى عليه .
ثم لم يؤمن ومات كافرا ومنكرا لرسالة النبي صلى الله عليه وسلم.
هكذا تعمى البصيرة بالرغم من حضورالبصر.
ومما يروى من قصص السيرة النبوية أن الرسول صلى الله عليه وسلم اشترى جملا من يهودي ، ولكن هذا الأخير ادعى كذبا أن الرسول لم يعطه ثمن الجمل بل وطالب الرسول بشاهد على ذلك .
فلما جاء الصحابي (خزيمة بن ثابت ) قال أنا رأيتك يارسول الله وأنت تعطيه ثمن الجمل .
وبعد يومين سأل الرسول خزيمة كيف تشهد أني أعطيته ثمن القعود وأنت لم تكن حاضرا ؟
قال خزيمة يارسول الله أصدقك في خبر السماء وكل ما جئت به وأكذبك في بضع دراهم !؟
إنها سلامة البصيرة ، رغم غياب البصر .
وفريد المذهان (القيصر) الذي عاش رعبا حقيقيا وهو يسرب خلسة الآلاف من صورالجثث المشوهة، تارة في جواربه ،وتارة في أكياس الخبز على المعابر الأمنية، قدم برهانا في مقابلته ، كان أوضح للعيان من تلك الصور، لقد كانت احداقه المضطربة التي عشش فيها ذعرقديم وخوف مريب وتوجس لايهدأ ، خير برهان.
ومن يمعن النظرفي أبصار المذهان المذعورة ، يدرك حجم الهول الذي مرت به سورية ويدرك ثمن النجاة الباهظ الذي دفعه الكثيرون.
هذه الأحداق كفيلة ان تجعل كل سوري يعيد النظر في نفسه ،ويتساءل عن مسؤوليته ترى كيف ينهض بهذه البلاد الناجية من الجحيم ، والمقدمة على دنيا السلام والنماء .
سورية اليوم وطننا ،وليست المزرعة الأسدية، فأمنها منا ، ونماؤها لنا ، فللننظر لها بعين الحمية والغيرة واليقظة والحب .
*فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها* .
وسوم: العدد 1115