المذهان السوري وغارانس الفرنسية: سردية الجحيم
لى قناة «الجزيرة»، خلال برنامج «للقصة بقية»، كشف المواطن السوري فريد ندى المذهان، المساعد أوّل والرئيس الأسبق لقسم الأدلة القضائية في الشرطة العسكرية التابعة لجيش النظام السوري البائد؛ بأنه «قيصر»، الاسم السرّي الذي اشتُهر به الرجل مهرّب آلاف الصور الفوتوغرافية لجثث السوريات والسوريين، الأطفال والنساء والرجال، الذين قضوا تحت التعذيب في أقبية وسجون أجهزة آل الأسد الأمنية المختلفة. وهؤلاء، كما أكّد المذهان، تمّ توثيق مقتلهم فوتوغرافياً في مشرحتَي مستشفى تشرين ومستشفى حرستا، وطُمست أسماؤهم وهوياتهم واستُبدلت بأرقام مجردة؛ كما صُنّف الموت، تعذيباً أو إعداماً أو تجويعاً وتصفية جسدية، تحت ذريعة واحدة هي «توقف القلب والتنفس».
التفاصيل التي سردها المذهان، حول طرائقه في مخادعة حواجز التفتيش وتهريب بطاقات الذاكرة حيث خزّن نُسَخ الصور الفوتوغرافية، تنطوي في ذاتها على مزيج رفيع من الغيرة الوطنية والشجاعة الفائقة والمجازفة المفتوحة والتضامن الإنساني، في آن معاً. ولم يكن مستغرباً أن يُقابل من أبناء سوريا عموماً، ومن مواطنيه في مسقط رأسه محافظة درعا خصوصاً، بترحاب استثنائي مفعم بالامتنان؛ فارتفعت أصوت تطالب بوضع صورته على الفئات العليا من أوراق العملة الوطنية السورية.
الهيكلية السردية للحكاية تنهض على سلسلة من عناصر التشويق والتكتم والمغامرة والبسالة، ابتداءً من قرار المذهان نسخ الصور وتخزينها إلكترونياً ثمّ تهريبها تباعاً، مروراً بوضعها تحت تصرّف فريق قانوني متخصص برعاية من دولة قطر، وتوظيفها على صعيد حقوقي دولي تبلور في «قانون قيصر» الأمريكي الشهير وسواه، وتهريب المذهان نفسه خارج سوريا عن طريق الأردن، واقتناع الرجل أنّ الواجب بفرض عليه التحدّث إلى وسائل إعلام ملتزمة وجادّة تكفلت بإيصال الملفات الرهيبة إلى الرأي العام العالمي؛ وانتهاءً بانهيار نظام «الحركة التصحيحية» ومجرمي الحرب، حين بات الكشف عن هوية «قيصر» تحصيل حاصل مطلوباً وطنياً، ومن باب وفاء سوريا لأحد أخلص أبنائها.
هذا الجانب الأخير، أي الانفتاح على وسائل إعلام عالمية، تضمن الكثير من التفاصيل فتنوعت طرائق التعامل مع آلاف الصور الرهيبة المخيفة تلك؛ حيث لم يغب عن التنويعات رأي، في صفوف أصدقاء النظام وأوساط ما يُسمى بـ»الممانعة» خصوصاً، ساجل بأنّ الحكاية كاذبة، ومؤامرة إمبريالية، وتلفيق أقرب إلى الرواية البوليسية. رأس النظام الأسد نفسه لم يتخلف عن الركب، فتشاطر خلال حديث مع موقع «ياهو» بالتساؤل عما إذا كانت نتاج تلاعب بواسطة الفوتوشوب. وهذه السطور لا تخفي انحيازها، والامتنان العالي والعرفان بالجميل، لجهود الصحافية الفرنسية غارانس لوكين Garance Le Caisne، وكتابها الرائد «عملية قيصر: في قلب آلة الموت السورية، الذي صدر بالفرنسية سنة 2015 في باريس، ضمن منشورات Stock، وتُرجم إلى لغات عديدة بينها الإنكليزية والألمانية والإيطالية؛ وكذلك الشريط التسجيلي «نفوس مضيّعة»، وأنجزته بالاشتراك مع ستيفان مالتير، 2022.
انخراط لو كين في تتبّع ملفات «قيصر» حكاية مثيرة في ذاتها، تشدد أيضاً على أخلاقية انحيازٍ ملتزم يدأب على اقتفاء خيوط الحقائق المتشابكة، المريعة الفظيعة والوحشية الهمجية؛ وهو خيار سوف يقودها إلى انخراط أوسع في الشؤون السورية مع كتابها الثاني «إنسَ اسمك: مذكرات المفقود مازن الحمادة»، الذي تناول تصفية المعارض السوري عن طريق استغلال هشاشته العاطفية تجاه أهله وبلده، وإغوائه بالعودة إلى سوريا. وبعض أبرز أنساق التكريم السوري الذي تلقته لوكين، اعترافاً بجهود فاعلة وكاشفة ونبيلة في آن معاً، كان منحها جائزة سميرة الخليل ــ دورة 2024، مناصفة مع الشاعرة الفلسطينية الغزاوية نعمة حسن.
وثمة بُعد خاصّ، تأليفي الطابع ومهنيّ التميّز ونزيه في الإلحاح على وظيفة الصحافة والصحافيّ، يتمثل في خيار لوكين تقسيم الكتاب إلى فصول ينتظمها في المقام الأوّل ما يمكن توفيره من تماسك وتناسق وانسجام، وبعض التطابق حين تتيح الحال، بين ما يسرده «قيصر» لمحاورته الصحافية، من جهة أولى؛ وبين وقائع ومعطيات وإفادات توثيقية تصدر عن ضحايا النظام، وبينهم الفتى حمزة الخطيب مثلاً، تؤكد أقول «قيصر» نفسه، من جهة ثانية. كما أنها لا تغفل الاستعانة بالمخيّلة الأدبية السورية، وكتابات السجون المقترنة بالطابع التوثيقي، كما في اقتباس مصطفى خليفة وروايته «القوقعة»؛ وتلتقي بعائلات المفقودين، أو المرجّح اكتشاف تصفيتهم جسدياً من خلال الصور، ليس في باريس وحدها، بل في مدن سورية عديدة، وفي إسطنبول التركية وجدّة السعودية.
وليس من دون قصدية ذكية، وهادفة إلى إحداث الصدمات الأبكر لدى قارئ قد يباشر القراءة مرتاباً متشككاً، أنّ لوكين تفتتح الكتاب بواقعة شهدتها وزارة الخارجية الفرنسية، يوم 12 كانون الثاني (يناير) 2014؛ على هامش اجتماع عدد من وزراء خارجية التجمّع الذي عُرف يومذاك باسم «أصدقاء سوريا»؛ حين عُرض عليهم شريط فيديو من 8 دقائق، بمثابة عيّنة على صور «قيصر». وكأنّ الشراكة بين المذهان السوري وغارانس الفرنسية تتقصد الاستهلال بهذا التفصيل كي تقول إنّ سردية اختراق جحيم آل الأسد يمكن أن يبقى مجرّد عرض، فلا يعيق النظام السوري عن ارتكاب فظائع أشدّ دموية؛ على غرار القصف الكيميائي لغوطة دمشق الشرقية، وأضاليل «الخط الأحمر» الأمريكي/ الأوروبي… مثلاً!
وسوم: العدد 1115