ما بعد غزّة: عالم بانكاج ميشرا
هذا الكتاب، «العالم بعد غزّة: تاريخ»، الذي أصدره قبل أيام الكاتب والروائي والناقد الثقافي الهندي بانكاج ميشرا، غير بعيد عن حيازة صفة التأليف الأعلى نزاهة وشجاعة وصواب تشخيص وعمق تحليل، في كلّ ما نُشر منذ مطلع العام الجاري 2025 من دراسات وأبحاث ومؤلفات حول عام ونصف العام من حرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ قطاع غزّة. ليس أقلّ أهمية أيضاً أنه لا يرسي سقوف الحدّ الأدنى من تناول حال العالم بعد غزّة فحسب، بل إنّ النصّ من حيث عناصر المنهج والمقاربة والاستنتاج، إنما يرفع السقف أعلى وأبعد توغلاً في التواريخ الاستعمارية والإمبريالية والعنصرية والاستيطانية التي تشترك في رسم خلفيات حرب الإبادة ومكوّناتها، والسياقات ذاتها التي تتيح استمرارها على نحو أشدّ وأبشع وأعتى.
والكتاب صدر بالإنكليزية ضمن منشورات بنغوين ـ راندوم، واسعة التوزيع والحضور بين لندن ونيويورك والعوالم الأنغلوسكسونية عموماً؛ وهذا ابتداء تفصيل حاسم لجهة مرور الكتاب عبر منافذ رقابية كثيرة ومتنوعة اعتادت إخماد أصوات التضامن مع القطاع وأهله، وذهبت مراراً إلى درجة وأدها في المهد وعلى نطاق غالبية الديمقراطيات الغربية. ذلك يجعل صفحات الكتاب الـ292، وفصوله الخمسة (موزعة على ثلاثة أجزاء، وتمهيد وخاتمة)، أقرب إلى ملفات تشريحية تُعلن غزّة في العنوان، ثم تغوص عميقاً في دقائق مذهلة من تاريخ طافح توجّب أن يمهد للإبادة، ثمّ يجمّل ما انطوت عليه من جرائم حرب، قبل أن يتغنى بها.
والحال أنّ احتمال تورّط ميشرا في أيّ طراز من «اللغة الخشبية»، التي يُشاع في الغرب أنها عدّة الكتابة اليسارية عن أطوار الاستعمار، سوف يتهاوى سريعاً إزاء حقيقة أولى تشير إلى أنّ «بضاعة» الرجل ليست البتة كاسدة لدى كبريات المنابر السياسية والثقافية والأكاديمية في الدوائر الغربية ذاتها، بل هي على العكس؛ رائجة ومطلوبة ومستحبة، لأنها على وجه التحديد لا تجنح إلى اللغة الخشبية الرجيمة بقدر ما تشخّص بصواب، وتشرّح حيث يتوجب أن يشقّ المبضع. أهمية ميشرا تنهض أيضاً على ما يخوضه من معارك، نزيهة في المقام الأول، لجهة طرائق السجال وأدواته وقواعده؛ ولأنّ الخصوم في الطرف الثاني من جدل الاختلاف ليسوا في المقام الثاني أقلّ من «نجوم» رائجة واسعة القبول والشعبية، وبعض الشعبوية. ولعلّ في عداد الأشهر تلك المعركة التي خاضها ميشرا ضدّ الكندي جوردان بيترسن، حول ألاعيب تحليل نفسي تجمّل في الباطن طرازاً مستتراً من العنصرية في توصيف «البدائي النبيل»، أي المُقبل على الاستعباد والقابل به.
حقائق أخرى تضيفها مؤلفات سابقة شكّلت تباعاً شخصية ميشرا في الجانب النقدي المعارض المنحاز إلى قضايا الشعوب في مواجهة قوى التجبّر العظمى، على غرار «إغواءات الغرب: كيف تكون حديثاً في الهند وباكستان والتبت وما بعد»، 2006؛ و»من خرائب الإمبراطورية: مثقفون أعادوا صناعة آسيا»، 2012؛ و»عصر الغضب: تاريخ للحاضر»، 2017؛ و»غلاة مداهنون: الليبراليون، العرق، والإمبراطورية»، 2020. وفي التمهيد لكتابه عن التاريخ ما بعد غزّة، يبادر ميشرا إلى اقتباس هذا النصّ من سيغموند فرويد: «فكّر في المقدار الهائل من الوحشية والقسوة والأكاذيب الذي ينتشر في العالم المتحضر. هل تعتقد حقاً أنّ حفنة من الرجال الطامحين والمخادعين بلا ضمير كانوا قادرين على إطلاق كلّ هذه الأرواح الشريرة، لو أنّ الملايين من أتباعهم لم يشاطروهم الذنب؟».
الفقرة التالية مباشرة سوف تستعيد حكاية من تاريخ الهولوكوست، وقعت يوم 19 نيسان (أبريل) 1943، تروي إقدام مئات من اليهود الشباب في غيتو وارسو على التصدي لمهاجميهم النازيين، واختصر قائدهم ماريك إدلمان الفعل المقاوم هكذا: «كلّ ما هدفنا إليه في نهاية المطاف كان منعهم من ذبحنا حين يحلّ دورنا. كان مجرد خيار حول طريقة الموت». تلك، في ناظر ميشرا، واقعة تحيل مباشرة إلى الملايين من أهل غزّة، الذين أخضعتهم دولة الاحتلال إلى محنة إفناء مماثلة، وبالتالي توجّب أن يقترن اختيار شكل الموت بأنساق المقاومة وردّ الهجمات. وإذْ خشي إدلمان، حسب توصيف ميشرا، أنّ العالم خارج الغيتو لن يسمع حشرجة الموت؛ فإنّ أهل القطاع، في المقابل، قُتلوا وجُوّعوا وشُرّدوا وقُصفوا على مرأى ومسمع العالم بأسره، ومباشرة على الـ»تيك توك» ووسائل التواصل الاجتماعي الأخرى.
في الجزء الأوّل من الكتاب، يناقش ميشرا تنويعات الحياة ما بعد المحرقة، ونزوع دولة الاحتلال إلى ارتكاب العدوان على نحو لا شفاء منه. الجزء الثاني يتناول معادلة الاستذكار من أجل استعادة ذاكرة المحرقة على وجه التحديد، ويذهب إلى ألمانيا والانتقال من العداء للسامية إلى ما يسميه ميشرا «العداء للفلسفة»، وصولاً إلى أمْرَكة الهولوكوست. الجزء الثالث يرتاد منطقة غير مألوفة، هي عبور خطّ اللون وبلوغ حرب الإبادة الإسرائيلية مستوى استفزاز واستثارة تنازع الأعراق وألوان البشرة، سواء لجهة اصطدام سرديات المحرقة والعبودية والاستعمار، أو ارتطام سياسات الهوية بنزوع التصفية العرقية والإبادة الجماعية.
مقترحات ميشرا للعالم ما بعد غزّة ليست منفصلة عن، ولا متناقضة مع، عوالم عقود وقرون من الهيمنة والإخضاع والعنصرية والاستعمار؛ لأنّ المشهد كونيّ أوّلاً، ولأنه تالياً متعاقب متكامل.
وسوم: العدد 1116