القضاء الإسرائيلي… باطل يراد به باطل
أبرزت وسائل الإعلام الإسرائيلية مؤخرا خبر تقديم لائحة اتهام ضد خمسة جنود احتياط، بينهم ضابطان، بتهمة الاعتداء وتعذيب أسير فلسطيني، كان محتجزا في معسكر الاعتقال «سديه تيمان». وتضمنت لائحة الاتهام وصفا للأفعال التي نفذها أولئك الجنود، وأدّت في النهاية إلى كسر أضلاع الأسير وإحداث ثقب في رئته اليسرى وتمزق داخلي في منطقة الشرج وجروح في الأرداف ورضوض في وجهه أيضا. وقعت حادثة التعذيب في يوليو الماضي وبدأ التحقيق فيها حين اكتشف أحد حراس السجن حالة الأسير، الذي كان ينزف بعد أن أعاده الجنود المعتدون إلى سريره خلسة.
وقد تبيّن أن الجنود المعتدين كلفوا بإجراء تفتيش على مجموعة من المعتقلين الفلسطينيين، الذين نقلوا إلى معسكر «سديه تيمان» في جنوب إسرائيل، من سجن «عوفر»، القريب من مدينة رام الله، وكان من بينهم الأسير/الضحية. قام اثنان من المتهمين بحمل الأسير من فراشه وهو مقيد اليدين والقدمين ومعصوب العينين، ونقلاه إلى منطقة أخرى لإجراء التفتيش عليه. بدأوا بضربه ضربا مبرحا وقاموا بطعنه في مؤخرته بواسطة أداة حادة تسببت له بجروح نازفة. أثناء ذلك دفعه جنديّان نحو الحائط ورفعا يديه المقيدتين واستمروا بضربه بعنف حتى سقط على الأرض وهو يصرخ من الألم، بينما تحلق حوله الجنود واستمروا بركله لمدة ربع ساعة والدوس عليه والوقوف فوق جسده وضربه، مستخدمين الهراوات ومسدس الصعق الكهربائي؛ كما أجبروه على أن يضع الهراوة في فمه رغم تألمه وصراخه.
سيبقى دور المؤسسات الحقوقية في رصد انتهاكات إسرائيل مهمّا، وتقاريرها ستبقى خمائر الحق الفلسطيني في المستقبل
طيلة اعتدائهم الوحشي هذا، كان أحد الجنود يمسك بكلبه قريبا من جسم الأسير. بعد انتهائهم من ضربه أعادوه إلى فرشة محاولين إخفاء النزيف بوضع قميصه فوق الجراح. كان الأسير يشتكي من الألم ومن صعوبة التنفس ومن صداع شديد. لاحظ أحد السجانين أنه ينزف من تحت الملابس، فاستدعى الممرضين لينقلوه بداية إلى عيادة المعسكر، ومن هناك إلى المستشفى، حيث أجريت له عدة عمليات معقدة.
لا نعرف مصير لائحة الاتهام التي قدمت إلى المحكمة العسكرية المختصة بالجنود، ولا كيف ستنتهي الاجراءات القضائية بحق هؤلاء الساديين؛ لكننا نعرف كيف كانت ردود فعل «الشارع» الإسرائيلي عندما انتشر نبأ اعتقال الجنود بغرض التحقيق معهم. وقتها زحفت جموع الغوغائيين اليمينيين، بمشاركة بعض ممثليهم في الكنيست، نحو بوابات معسكر الاعتقال «سدي تيمان»، كما اقتحموا منطقة القاعدة العسكرية في «بيت ليد» بسبب وجود مبنى المحكمة العسكرية فيها.
تعصف في المجتمع الإسرائيلي رياح مسمّمة، وأكثريته مصابة بحالة من «التغوّل»، دفعتهم إلى تأييد ما قام به الجنود واحتسابهم أبطالا، وبما فعلوه واجبا قوميا لا يستحقون عليه العقاب، بل كل الثناء والتقدير. من الصعب أن يتمالك الإنسان أعصابه وهو يقرأ تفاصيل لائحة الاتهام، ويتصوّر دناءة الأفعال وحالة الأسير وصراخه على مسمع من سائر الأسرى المقيدين ومعصوبي العيون. قرأتها؛ حزنت وخفت. فأنا منذ أربعة عقود ونصف العقد أعمل وسط هذا «الجحيم» وأمام أمثال هؤلاء الجنود وغيرهم ممن يخدمون الاحتلال بعمى وبحقد خالصين. عمر مضى، كنت فيه شاهدا على كيف حوّل ويحوّل الاحتلال «أبناءه» إلى مسوخ شيطانية تؤمن أن لا أبرياء في فلسطين، وأن العربي الجيّد هو العربي الميّت. احتلال يحوّلهم إلى روبوتات تستنسخ «أفراخا» مبرمجة على الكراهية وعديمة المشاعر وأية قيم إنسانية. خفت لأنني على يقين بأن ما فعله الجنود بضحيتهم هو حصيلة حتمية لقرابة ستين عاما من الاحتلال، من القمع ومن الاضطهاد؛ وهو «الشيء العادي» الذي يمكن أن يحدث في كل مكان وزمان داخل إسرائيلهم المارقة. ما فعله الجنود في «سدي تيمان» فعله إخوانهم في غزة من زمان، وفعله ويفعلونه في الضفة اليوم ومن زمان. في البدء كانت نطفة الخطيئة الكبيرة، فكبرت حتى صارت، بعد السابع من أكتوبر 2023 ماردا أخرق وأهوج، وارث دم الأساطير، فركب عربات النار واقلع يكسر جميع الأطواق ويمحو أبسط المسلمات البشرية، مسقطًا جميع الأقنعة؛ ماردا تعرّى على مثال آلهته، آلهة الموت والخراب.
لم تبدأ حكاية موت الأسرى الفلسطينيين على أرض «سديه تيمان» ولا في فصوله الأربعة الماضية؛ فقوائم الذين أعدموا، أو سقطوا وراء قضبان السجان، أو ماتوا مرضى أهملتهم رعايته، طويلة وموجعة. ويكفينا أن نتذكّر بأنه منذ السابع من أكتوبر سقط وقضى قرابة الخمسين فلسطينيا في الأسر الإسرائيلي، وقد يكون العدد أكبر، لأننا لم نعرف كثيرا عمن اعتقلوا أو أسروا من غزة في بدايات الحرب، وماذا كان مصيرهم. لم تخف حكومة إسرائيل قرارها وسياستها تجاه الأسرى الفلسطينيين الأمنيين، ولم تنكر أنها أوعزت للمسؤولين فيما يسمى «مصلحة السجون الإسرائيلية» بالتضييق على الأسرى الفلسطينيين وبتحويل حياتهم داخل السجون إلى جهنم. لقد بدأت تفاصيل نتائج تلك السياسات تنتشر منذ أكثر من عامين، وما رشح منها كان مقلقا وخطيرا، حتى إننا تأكدنا أن ما عرفناه كان نقطة في بحر من ظلمة مخيف. معظم المؤسسات الحقوقية العاملة في مجال الدفاع عن الأسرى الفلسطينيين وحماية حقوقهم، أصدرت تقارير دورية مفصلة وموثقة عن الخروقات التي مارستها وتمارسها السلطات الإسرائيلية، كان من ضمنها تقارير خاصة عن الوضع داخل معتقل «سدي تيمان». بعد أن جمعت الشهادات من عدة مصادر موثوقة واتضحت صورة ما يجري داخل هذا المعسكر، وتبين أنه أقرب إلى «المسلخ» أو «موئدة للرجال»، توجهت في حينه مجموعة من المؤسسات الحقوقية إلى «المحكمة العليا الإسرائيلية» وطالبتها بالتحقيق بما يجري داخله وبإغلاقه. ماطل قضاة المحكمة وتظاهروا بأنهم معنيون بالكشف عن حقيقة ما يجري وطالبوا ممثلي الحكومة بتزويدهم بالمعطيات. كانوا يستمعون ويُشعرون العالم بإنهم يصغون، لكنهم في الواقع كانوا يماطلون ويتظاهرون حتى نهاية لعبتهم، فأصدروا بعد عدة جلسات قرارهم بعدم إغلاق المعسكر، لكنهم «ألزموا» الحكومة بإخضاعه إلى الشروط المعيشية القائمة في سائر مراكز الاعتقال، مثل سجن عوفر ومجيدو وغيرهما. كان قرارهم مضحكا مبكيا، لأنهم في الواقع يعرفون كيف يعيش الأسرى الأمنيون في سجون الاحتلال، وأن ما يواجهونه فيها هو عينة مطابقة لما يجري في معسكر «سدي تيمان»، ربما بوتائر وبمقادير مختلفة. مرة أخرى تصرّف قضاة المحكمة العليا كأبناء مخلصين «لقيصرهم ولمملكته» ومدّوا لحكومته، كما فعلوا منذ بدايات الاحتلال، حبل الإنقاذ ومكّنوها من أن تمضي بتنفيذ سياساتها، كدولة محتلة تمارس سيطرتها المطلقة، ليس فقط على الأسرى الفلسطينيين، بل في جميع أرجاء الإمبراطورية وعلى سكّانها من الأغيار.
لا يستطيع أحد أن يتكهن كيف ستنتهي محاكمة الجنود الخمسة، بيد أن نهايتها ستبقى تفصيلا هامشيا على جدار المشهد العام، ومقابل تعزيز موقف حكومة إسرائيل أمام المحافل الدولية، التي تطالب بمحاكمة جنودها وضباطها وساستها بتهم اقترافهم لجرائم حرب بحق الفلسطينيين. سوف تجند الحكومة الإسرائيلية «تدخل» المحكمة العليا ومتابعتها لما يجري في معسكر «سدي تيمان»، وقرارها المذكور في القضية، وستجند كذلك قيام أجهزتها القضائية في التحقيق مع الجنود وتقديمهم للقضاء، كحجة دفاع لصالحها وفق قاعدة «التكامل القضائي» المقبولة في القانون الدولي التي، في حالة ثبوتها، قد تعفي الدولة المشتكى عليها، أي إسرائيل، من المساءلة القضائية الدولية. لا يمكن التعويل على مثل هذه الإجراءات القضائية، فهي مجرد مساحيق تجميل لوجه الاحتلال البشع؛ تقديم لائحة الاتهام ضد الجنود الخمسة كانت خطوة حق يراد بها باطل؛ ومعاناة الأسرى لم تبدأ مع هذه الجريمة المروعة التي كشفت في ظروف استثنائية، ولم ولن تتوقف بعدها. سيبقى دور المؤسسات الحقوقية في رصد انتهاكات اسرائيل مهمّا، وتقاريرها ستبقى خمائر الحق الفلسطيني في المستقبل. وسيواجه الفلسطينيون، والأسرى خصوصا، ظروفا معقدة وخطيرة ويتوجب عليهم مواجهتها باجتراح أساليب نضالية لم تجرب من قبل، مثل إعادة النظر في تعاملهم مع المحاكم العسكرية وتوجههم إلى المحكمة العليا، وبناء وحدتهم الحقيقية داخل السجون؛ فإسرائيل، كما نعرفها، ستملأها مجددا بالأسرى وبالمعتقلين.
وسوم: العدد 1116