هكذا الأوطان تهدى وتباع
محمد علي شاهين
ازدادت حاجة روسيا الاتحاديّة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، ودخول العالم في حقبة القطبيّة الأحاديّة، وهي تدخل ميدان التنافس مع الولايات المتحدة الأمريكيّة للسيطرة على الاقتصاد العالمي، والأسواق الماليّة، والاستحواز على مصادر الطاقة والثروات الطبيعيّة، والتحكم بالمنظمات الدوليّة، للوصول إلى المياه الدافئة في البحر الأبيض المتوسط،والسيطرة على الممرات التجاريّة العالميّة، وراودها الحنين إلى عهد القياصرة يوم كانت سلطنة بني عثمان تقف سداً منيعاً أمام أطماعها التوسّعيّة.
وازداد تمسك الروس بقاعدة "الدعم المادي والتقني بطرطوس" التي منحها الأسد الأب لها في مطلع الثمانينات، لأهميتها العسكريّة في تحقيق نوع من التوازن مع أمريكا، وحاجة أسطولها التجاري والعسكري الملحّة للتزوّد بالوقود والمؤن والعتاد، وتنفيذ أعمال الصيانة الدورية أو الطارئة بعيداً عن الشواطئ الروسيّة، وجعلت منها مرصداً متقدماً لمراقبة حركة الأساطيل البحريّة الأمريكيّة في البحر المتوسط، مقابل تنزيه النظام عن ارتكاب المجازر الجماعيّة، وإلقاء المسؤويّة على المعارضة، والمساواة بين الآمر بارتكاب مجزرة الكيماوي وأطفال الغوطتين، والمطالبة بالتحقيق في استخدام هذا السلاح الإجرامي لطمس القضيّة.
وكانت روسيا مخلصة لبشار عندما أفشلت التدخل العسكري الأوروبي والأمريكي، حتى ولو خسرت سوريا سلاحا كان يمثل قوة ردع أمام الاطماع الاسرائيلية في سوريا، بإقناع أمريكا للقبول بمبادرتها التي تبعد شبح الحرب الكيماويّة عن ربيبتها إسرائيل، وكان الفيتو الروسي في مجلس الأمن عائقاً أمام أي حل للمعضلة السوريّة.
وأبقت روسيا باب الصراع مفتوحاً بين الشعب والنظام، وانحازت ضد تطلّعات السوريين المشروعة، وادّعت بأنّ المشكلة تكمن فيمن يمسك البلاد بعد سقوط بشار، وساهمت في تدمير الاقتصاد السوري، وأغدقت القذائف والصواريخ على نظام الأسد ليواصل غاراته على المدن والبلدات الآمنة، ويقتل المزيد من الأطفال والنساء والشيوخ، ويرتكب المجازر بحق المدنيين، ويدمّر الأهداف الحيويّة والبنية التحتيّة، إرضاءً لحليفها المدلّل.
ورغم البيانات التي يدلي بها العسكريون الروس حول سحب الخبراء والعاملين بالقاعدة وترحيل عائلاتهم كلّما اقتربت ساعة الحسم، فإنّ الحاجة تزداد لدى الروس للاحتفاظ بالقاعدة في كافّة الظروف، لأنّها تشكّل ثانية القواعد البحريّة للأسطول البحري خارج روسيا بعد قاعدة سيفاستوبول المطلة على البحر الأسود بشبه جزيرة القرم.
وتحت دعوى فك الحصار وتطوير وتعزيز العلاقات الزراعية بين البلدين من خلال الاتفاقيات وزيادة التعاون، يقايض نظام بشار روسيا،على طريقة المستعمرات الإفريقيّة، النفط الخام والحمضيات وزيت الزيتون والبطاطا والفاكهة، بخردة الحديد المكدّسة في مستودعات الاتحاد السوفييتي السابق، والذخائر الحربيّة المشعّة، والأسلحة الجرثوميّة والكيميائيّة، بينما يتعرّض الأمن الغذائي لملايين السوريين للتهديد، وتتوعدهم المجاعات.
وورث بشار قبل أن يداهمه الشتاء السوري تحالفات أبيه مع الطوائف والأقليات، فغضّت الطرف عن جرائمه، ولم تذرف دمعة واحدة على ضحايا قتله وتعذيبه، واكتفت بالإدانة اللفظيّة، حفظاً لخط الرجعة وماء الوجه.
وأثار هواجس الأقليات، وادّعى بأنّه "حامي الطوائف" من جمهور السنّة المتهم بالتطرّف والإرهاب إرضاء لأمريكا، مختزلاً آمال الشعب السوري وتطلّعاته نحو الحرية والكرامة والديمقراطية في صراعات مذهبية بين الأكثريّة السنيّة 85% والأقليّات، واستطاع استدراج الأقليات للولوغ في مخططاته بخبث ودهاء، وحشدها في الجيش، والأمن، والشبيحة، واللجان الشعبية، وكتائب الدفاع الوطني.
واستدعى الحقد التاريخي بكل أشكاله للانتقام من الأمويين والعثمانيين، فجاءته جيوش طائفيّة غازية تحلم في إنشاء جيب شيعي على غرار إسرائيل، قوامها وحدات مدرّبة من مقاتلي "حزب الله" اللبناني، و"الحرس الثوري" الإيراني، و"لواء أبو الفضل العباس" العراقي، والحوثيين من شمال اليمن السعيد.
وسحب قوّاته الموالية من الجبهة الجنوبيّة، ليعيد انتشارها في محاذاة محافظة اللاذقيّة وطرطوس، حيث تحفر الخنادق وتقام المتاريس، وتكدّس الأسلحة في المخابئ الجبليّة، بينما العدو الصهيوني يغض الطرف عن تحركات الجيش السوري في المنطقة العازلة، ويرفع السور الأمني الفاصل، ويواصل التنقيب عن النفط في ربوع الجولان المحتلّ.
ولم يكن من اليسير أن يتحرّر من النفوذ الروسي المتمثّل بالقاعدة البحريّة في طرطوس، ويبدد أحلام اليقظة في قم بإقامة "شيعستان" فارسيّة تأتمر بأمر الولي الفقيه، على شاطئ البحر المتوسط، أمّا الجولان التي باعها أبوه بأبخس الأثمان فلاتزال حيّة في ضمائر السوريين، لا يرضون عنها بديلاً.
وهكذا الأوطان تهدى وتباع، تارة تحت راية الممانعة لروسيا، وتارة تحت راية المقاومة لإيران، وتارة تحت راية التحرير لإسرائيل.