التحرير .. ميلاد ما بعد الثورة
في الخامس عشر من آذار عام 2011 وُلِدَ وطني الحبيب سورية، كطائر الفينيق الذي ينهض من بين الرماد، نافضاً عن جناحيه غُبار الظلم والذلّ، مُحلّقاً عالياً في كبرياء يُعانق سماء الحريّة رغم الرياح العاتية والأعاصير المدمّرة التي لطالما حاولت إعاقته. وفي ذلك اليوم المبارك خرجت القلوب قبل الأبدان، والأرواح قبل الأجرام تهتف للحريّة والكرامة والعدالة كما يهتف النهر للبحر، تفيض بالغضب تارة وبالأمل تارة أخرى، وبالفرحة مرة وبالدموع مرة ثانية، لكنّ صوتها ظلّ صادحاً مُزلزلاً كالرعد الهادر، لا يعرف الخفوت ولا التراجع. فتمثّل حال شعبنا العظيم كقول الشابي:
إِذا مَا طَـــمحْتُ إلى غايةٍ رَكِبتُ المنى ونَسيتُ الحَذرْ
ولم أتجنَّبْ وُعورَ الشِّعابِ ولا كُبَّةَ اللَّهَبِ الــمُـــــستَعِرْ
لم تكن الثورة زوبعةً عابرةً في صحراء التيه، بل كانت شلالاً هادراً جارفاً معه جدران الخوف التي بناها الطغيان البعثي لعقود طويلة. فأضحت كالشمس التي أشرقت على وطنٍ كان يغطّ في سبات القهر والفقر والحرمان، وأيقظت في النفوس ما كان مكنوزاً دفيناً، وأبدت عناداً وإصراراً في حبّ الوطن لا مثيل له، فجذوره ثابتة راسخة في أعماق الأرض، لم ولن تُقتلع رغم العواصف العاتية. ورحم الله الشاعر غازي الجمل:
في عالمِ الصمتِ المهيمنِ حولَنا حتّى غدا مســــــــــتبكماً مشلولا
نطقتْ فصاحتُنا بلحنِ كفاحِنا أعــــلى البيـــانِ صــواعقاً وقتيلا
لقد واجه السوريون أقدارهم كما يواجه الفارسُ الأعداءَ بسيفه المكسور، فلم يرتجفوا أمام القمع والتنكيل، ولم تنكسر أصواتهم رغم سطوة الحديد والنار عليهم، فكان الطفل يهتف في الساحات كما يهتف العصفور للفجر، وكانت الأم تحرّض أبناءها إلى الحرية فتلقي بهم في ميادين الشرف كما تلقي الوردة عطرها للريح، حتى صار الوجع درباً من دروبنا، والصبر سلاحاً ماضياً يدفع عنا المخاطر، والإيمان وقوداً مُلهباً لعزائمنا لا ينطفئ ولا يخمد. وكأن هناك وحيٌ ينفث في روع شبابنا قائلاً:
قِفْ شـــــــامخاً مثلَ المآذنِ طولاً وابعَثْ رصاصَك وابلاً سجيلا
ســـــــــطِّرْ على هامِ الزمانِ بأنّنا أهلُ الــــــكرامـــــةِ والأعــــــــــــــزُّ قبيلا
لكن الثورة السورية العظيمة لم تكن مجرد كلمات جوفاء، بل كانت أفعالاً تُسطّر بالدم، وتصنع المجد من العدم. واليوم بعد أعوامٍ من الجراح النازفة، وبعد ليالٍ طويلة كانت السماء فيها تبكي مع الأمهات الثكالى والأرامل، أشرقت شمس النصر المبين، كأنها تفتح نوافذ الفجر الباسم على وطنٍ غسلته التضحيات وأدمته الآلام وأوجعته الجراح. سورية اليوم ليست تلك التي طوّقها الظلم وأسرها القهر وقيّدها الذلّ، بل هي زهرة فوّاحة خرجت من بين الصخور، فتمسّكت بالحياة رغم قسوتها، وها هي اليوم تفرد أوراقها بعطر الحرية، وكما قال محمود درويش: "ونحن نحبُّ الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلاً، ونرقصُ بين شهيدين… نرفعُ مئذنةً للبنفسجِ بينهما أو نخيلاً".
بعد خمسة عشر عاماً، باتت الثورة قصيدةً ترددها الأجيال، وحكايةً تسري في عروق الوطن كما يسري النبض في الجسد، تعلّم السوريون أنّ الكرامةَ لا تُهدى بل تُنتزع لأنّها حقّ أصيل، وأنّ الوطن لا يُباع بل يُحرَّر، وأن صرخة المظلوم وإن بدت ضعيفة، ولكنّها تهزّ عروش الطغاة كما تهزّ العاصفة أغصان الأشجار اليابسة.
في كلّ عام يعود الخامس عشر من آذار ليذكّر العالم بأسره أنّ سورية ليست أرضاً تُسلب، بل روحاً عصيّةً على الانكسار، وأنّ الشعب الذي كسر قيوده مرةً، لن يضعها في معصميه مجدداً، وكما تغسل الأمطار وجه الأرض بعد أعوامٍ من القحط والجفاف، غسلت الثورة وجه الوطن من غُبار الذلّ والهوان، وها هي سورية اليوم بعد تحريرها تعود أكثر نقاءً وأكثر صلابةً وأكثر إصراراً على الحياة والعطاء والبناء.
ومن فرحة شعبنا بهذا الفتح العظيم والكرم الإلهي الجزيل تراه مدهوشاً بين مصدّق ومكّذب بعدما اشتدّ الخناق عليه، فاختلطت عليه جميع مشاعر الفرح والدهشة والتردد ليظن وكأنّه ما يزال في حلم جميل لا يريد اليقظة بعده.
حلمٌ على جنباتِ الشامِ أم عِيد لا الهمّ همّ ولا التسهيد تسهيد
أتكذب العينُ والراياتُ خافقة أم تكذبُ الأذنُ والدنيا أغاريد!
وسوم: العدد 1120