الهجرة دستور حياة
هائل سعيد الصرمي
الهجرة النبوية دستور حياة متكامل يبعثل الأمل ويحرر النفس من كل قيد يعيقها في مسيرة الحياة المتشعبة إن الهجرة النبوية تحدد المسار العملي وتجسد التصور العقدي في شتى مناحي الحياة المختلفة... وهذا المسار يحقق لمن ترسَّمهُ الحياة الكريمة العاجلة والأجله ,. فمن المعاني القيمية ينبثق التصور السوي ويتبين المسار المستقيم ـ من بين الطرق المنحنية ـ فقد كانت الهجرة بداية التحول العملي المثمر لتصور عقدي دام 13 عاما.
إن التكامل بين الجانب العملي والتصوري في الهجرة , يشكل مسارا للنضال الإيجابي الذي يفضي إلى تحقيق الهدف وهو كذلك في أي معركة كانت وفي أي زمان وفي أي مكان..نستوضح هذا المسار والمنهج من وحي الهجرة النبوية في هذه النقاط الأربع .
1ـ التخطيط السليم والتدبير الحكيم بريد تحقيق الأهداف وسنة من سنن التدافع.
إن تخطيط المشركين للنيل من رسول الله ومحاولة القضاء عليه بهدف وئد دعوته قبل الهجر, قُوبل بتخطيط من رسول الله مكين يفوت عليهم ما أرادوا ويحقق تمكيناً لدعوته في الأرض فتم له ما أراد وخسر هنالك المبطلون ..وهذا معلوم في سنة الصراع بين الحق والباطل (ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين)
فأهل الحق يدبرون ويخططون بالله لأنهم معتمدين عليه. قال تعالى:(.بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمْ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) (18) الأنبياء(وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً )(81) الإسراء (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ )(30) الأنفال ومن هنا ندرك أهمية التخطيط في حياتنا سواء الحياة الجماعية أو الفردية أنها تبلغ الأهداف وتنجز الأعمال وتدفع الفشل والإحباط كما تئد تخطيط المبطلين وتأمرهم سواء
2ـ تحقيق الهدف والوصول للغاية يأتي كمكافأة على الأخذ بالأسباب وليس الأسباب هي التي أدتْ إليه.
أخذ الرسول صلى الله عليه وسلام في الهجرة بالأسباب كاملة حتى لم يدع سببا إلا وأخذ به كي يعمي على قريش فلا تصل إليه . لكنها وصلت ووقف جنودها أمام الغار ,قد يقول قائل معنى هذا أن الأسباب التي أخذ بها النبي( ص ) لم تُجدي نفعا , فلو أجْدتْ لما وصلوا إلى الغار!! نقول له إذا كانت منفردة نعم لم تجدي ..لكنها أجْدتْ عندما صحبها التوكل ,لقد وصلوا إلى الغار لكن لم يتمكنوا من أن ينالوا ما أراده من رسول الله وصاحبه, منعهم التوكل فقد أرسل الله جنودا لم يروها وجعل كلمته العلي وكلمة الذين كفروا السفلى . ذلك التوكل الذي تجسد عند خشية أبو بكر على رسول الله"قال والله لو نظر أحدهم إلى قدميه لرآنا" قال له النبي (ص): "ما بالك باثنين الله ثالثهما" قال تعالى: إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (40) التوبة
هذا المعنى من هذا الموقف الذي جسده النبي وصاحبه في الهجرة يعد منهج حياة متكاملة ينسحب على كافة مناحي الحياة , فهو لكل مسلم أو فئة أو جماعة في أي ظرف وفي أي زمان وفي أي مكان. وفي أي معركة لمن أراد الوصول إلى تحقيق الأهداف المرجوة والنجاح والطمأنينة. فعليه أن يأخذ بالأسباب كاملة بقدر الاستطاعة ثم يفوض الأمر لصحب الأمر . لأنه عندما يأخذ العبد بالأسباب يكون قد أدى ماعليه فإذا حزبه أمر لا يجد في قلبه قلق بل يجد في قلبه طمأنينة ورضى ولن يصبه ضرار لأنه أدى ما علية. والله معه سيقدر له ما ينفعه لأنه متوكلا عليه .
فالذي يجلب النتائج المرجوة هو الإعتماد على الله مع الأخذ بالأسباب وليس الأسباب وحدها ولا يتحقق التوكل إلا بالأخذ بالأسباب فهي عملية متكاملة بين التوكل والأسباب فإذا انفرد أحدهما بطل عمله وتحول رسمه وأسمه فالتوكل يسمى تواكل . وكذلك الأسباب بدون التوكل لا وزن لها بل تصبح وبالاً على صاحبها وتفقده مأموله لأنه اعتمد عليها... فحري بالمؤمن أن يأخذ بها وهو معتمد على الله فيكافئه مقابل أخذه بها واعتماده عليه .(ومن يتوكل على الله فهو حسبه). .وهذا حدث مع رسول الله وصاحبه. تحقق النجاح لهما و النجاة مكافأة على ما بذلا من جهود وتوكل.
3ـ لا تقوم الدعوات ولا تحقق الأمنيات ولا تحصد النتائج إلا بجهد يبذل وتضحيات تقدم وابتلاْء يصبر عليه.
وما أكثر المواقف التي تدل على ذلك في الهجرة. فعلي كرم الله وجهه الذي لم يتجاوز الثانية عشرة من عمره ضحى بنفسه ونام على فرش رسول الله (ص) يوم هجرته وكذلك أبو بكر الصديق الذي قال الصُّحْبَة يا رسول الله: قال له النبي (ص ) الصحبة يا أبا بكر: فبكى فرحاً وهو يعلم أن هذه الرحلة تَحُفُّها المخاطر فهي رحلة الموت , وكذلك مواقف أسرته وخادمه رضي الله عنهم أجمعين بمختلف أدورهم المدهشة التي وزعت بينهم وفق خطة محكمة. وغير ذلك من إعداد العدة لهذه الرحلة العظيمة. كل ذلك يدل على جهد مبذول وتخطيط سليم وتضحية فريده ,وصبر عظيم . أفضى كل هذا إلى النتيجة المرجوة وهي نجاة النبي وصاحبه من شر كفار قريش ووصلهما إلى المدينة بسلام وتأسيس الدولة الجديدة.
ما يهمنا أن هذا المعنى يعد منهج حياه ومسار نضال ليس للمسلمين فحسب ولكن لكل من أراد النجاح في تحقيق أهدافه بغض النظر عن سموها من عدمه فهذه سنة للبشرية كلها عبر مسيرتها النضالية في الحياة والممات وما بعدهما من نتائج مبنية عليه
4ـ كانت الهجرة بمثابة محطة تغير ومرحلة تحول من مرحلة إلى مرحلة
عندما أغلقت قريش أبوابها أمام دعوة الإسلام بحث النبي (ص ) عن خيارات جديدة تكون موطئ قدم للنهوض وبدأ ببيعة العقبة الأولى ثم الثانية ثم الهجرة لأصحابه ثم هجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة التي إختارها موطن بديل لنشر الدعوة وتأسيس الدولة.
إن تغير المكان والزمان والوسائل والشخوص والمهام والخطط وغيرها مما ينبغي تغيره كفيل بتغير الحال وتحقيق الهدف وقد كان.
فالتغير الإيجابي في حياة المسلم تجديد وتطور يفضي للوصول إلى الحياة الطيبة وتحقق به النتائج المرجوة بإذن الله فهو منهج حياة يعتمده المسلم في حياته كلها خصوصا عندما تغلق أمامه السبل ولا يتحقق له ما يريد بسبب عوائق مختلفة .
هنا ينبغي عليه أن يبحث عن وسائل أخرى ومجالات جديدة لتحقيق هدفه. فيكون له ما أراد ولابد. والتغير يبدأ بإرادة التغير أي يبدأ من داخل النفس يعني إرادة قوية تتمثل في تغير الوسائل مع تصميم وإصرار على الهدف والغاية. لأن الله عز وجل قال: وقوله الحق المبين (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) والنبي (ص) قال (لا هجرة بعد الفتح ولا كن جهاد ونية) فهجر ما حرم الله جهاد وتغير الفساد جهاد ولا يتأتى ذلك إلا بنية صادقة في التغير إلى الأفضل وتضحية وعمل جاد متواصل وصبر جميل , والله المستعان.