دين الإسلام أم دين الديمقراطية؟
وائل خليل
﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ {1} لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ {2} وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ {3} وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ {4} وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ {5} لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾
لقد جعلنا من العالم المادي سجنا كبيرا يمنعنا من رؤية الحقيقة. رغم أن التفكير المستنير في العالم المحسوس مكننا من إدراك عين الحقيقة.
ورغم أن العقيدة الإسلامية ألزمتنا الإيمان بها عن طريق التصديق الجازم المطابق للواقع عن دليل.
ورغم أن هذه العقيدة مثلت القاعدة الفكرية التي تنبثق عنها جميع الأفكار والمعالجات، وكانت بمثابة الأرض الصلبة التي انطلق منها المسلمون يطوعون القوى المادية في هذا العالم من أجل نهضتهم. وبالاعتماد على هذه العقيدة استطاع الإنسان أن يتحرر من سجن الواقع المادي، بعد أن تعلم من أفكارها ومعالجاتها الطريقة التي يحطم بها تلك القيود.
ولكن بعد أن سحر أعيننا هذا العالم المنمق بديمقراطيته وحرياته، وجعل عليها غشاوة صرفتنا عن إدراك حقيقة عبوديتنا لله، رمينا القوة العقدية الدافعة للتحرر وراء ظهورنا، بعد أن كنا في الماضي من أشد حماتها.
فهذه الديمقراطية التي تقدم لنا على أنها المثل الأعلى، والتي بها تقاس كل الأعمال والممارسات، وهي سر حياة العالم المتحضر، وما هي في الحقيقة إلا ذلك الدين الجديد الذي يريد الغرب إدخالنا فيه قصرا.
الحكم الديمقراطي قد يرغب في "الحرية"، ولكنه لا يستطيع أن يكون "محررا". فلم يوجد على الإطلاق نظام استطاع أن يحكم سيطرته على الأفراد مثل الحكم الديمقراطي، فهو يراقبهم في أوقات عملهم وفراغهم، ويضع بقوة تصل إلى الشراسة كل وسائل إعلامهم ونقلهم وترفيههم تحت سيطرته، ويجعلهم يخدمون منظومة تجعل منهم نسخا متشابهة تقريبا في كل شيء.
وفي أقصى تجلياتها اليوم نرى الديمقراطية – مع أنها تتشدق بتقديسها للحرية الشخصية - لا تقتنع بحق الإنسان في الخصوصية، بل تحاول بكل قوة إلغاء الحياة الخاصة للإنسان. فتدخل علينا بيوتنا، وتتغلغل في مشاعرنا وأفكارنا، وتريد أن تجعل من الإنسان كائنا مجتمعيا على نمط واحد، لا يشكو من وحدة ولا إبعاد، وتعادي كل التجاوزات الإبداعية من القلائل. فنحن مقادون في كل الأوقات، بوعي أو بغير وعي، في طريقة تفكيرنا وتصرفاتنا بالنظام الديمقراطي، الذي هو الرأس المفكر، يفرض على كل واحد منا مقاييسه ووجهة نظره.
وأصبح الإنسان مجرد لبنة في هيكل مجتمعي ليس له أن يرسم أبعاده أو شكله. وحين يتكلم عن حقوق الإنسان، فحذار من الخطأ! فليس المقصود ذلك المفهوم المشخص الذي يحمي الإنسان من تعديات النظام الدكتاتوري، بل هو المفهوم العضوي الذي يحض الإنسان على الإباحية وإطلاق رغباته ونزواته الشخصية، حتى يصبح عبداً لهواه، فيفشل في النهاية للانتفاض من أجل أي تغيير على أساس فكري يتطلب منه تضحيات وصمود، فيحول في النهاية بين الإنسان وبين أي محاولة جادة للتغيير.
ومع ذلك فقد وضع النظام الديمقراطي قيودا كثيرة على الإنسان تحول بينه وبين الإبداع في كثير من الأحيان، وضع هذه القيود في شكل قوانين، لا تخدم الإنسان لذاته، بل تخدم المنظومة السياسية التي يعيش فيها.
كتب بول فاليري وهو شاعر وفيلسوف فرنسي: "إن عدد وقوة القيود ذات المنشأ القانوني (في فرنسا) ربما تكون الأكبر على الإطلاق على مدى التاريخ. القانون يسيطر على الإنسان وهو رضيع، فيفرض عليه اسما لن يستطيع تغييره، ويضعه في المدرسة ... ويطبق عليه المراسيم الحكومية العديدة والمعقدة، بحيث يستحيل على أحد معرفتها كلها ناهيك عن فهمها. أنا أوشك أن أستنتج أن الحرية السياسية، هي الطريقة الأكثر فعالية لاسترقاق الإنسان، لأن تلك القيود فُرضت باسم الإرادة الجماعية، ولا يمكن معارضتها، وتطبق بحذافيرها دون خجل أو رحمة، وببرودة وميكانيكية لا يمكن تفاديها، لأنها سلطة لا تحمل وجها، سلطة مجردة ولا شخصية لها، تحول حياة الفرد من الولادة وحتى الممات، إلى فترات لا يمكن تمييزها ولا يمكنني وصفها بالحياة الكريمة."
والآن بعد أن بطل السحر وانكشفت الغشاوة وظهر الوجه القبيح للعالم الغربي "الديمقراطي الحر"، بمؤامراته ودعمه الاستبداد في بلاد كثيرة، ورأسماليته المتوحشة... ناهيك عن ديمقراطيته التي كنا بصدد سرد رأي أصحابها فيها بعد أن اكتووا هم بنارها.
أليس فينا شباب راشد يكافح لاسترجاع ما فقدناه من تلك القاعدة الفكرية؟ بلا... فها هم شباب حزب التحرير، يصل ليله بنهاره ويتصدى لكل الأكاذيب التي يشهدها العالم الآن. يكافح لكي نسترجع كل قدراتنا الفكرية والحسية، ونكون ذلك الإنسان الجدير بتكريم الخالق سبحانه وتعالى، والذي بفكره المستنير يستطيع الوقوف بحزم ضد الخراب المتسارع للعالم.
وقد حان الوقت للانضمام إليهم في وقفتهم مع الحق، حتى يتمكنوا من تغيير مجريات الأمور، فتلفظ الأمة "الشرعية الديمقراطية" الزائفة لفظ النواة، وتستبدل الذي هو خير بالذي هو أدنى: خلافة على منهاج النبوة، تشيع الخير في ربوع العالم كله.
﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚوَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ (النور 55)