المثقفون والولاء لمحجوب عبد الدايم !
أ.د. حلمي محمد القاعود
في روايته " القاهرة الجديدة " نقرأ هذا المشهد الذي كتبه نجيب محفوظ :
" كانت السيدة أرستقراطية المظهر ، أنيقة الزي ، فتولته الدهشة والانزعاج ، ثم ارتاع وذعر ، وأعيا عليه القول ، ورأته المرأة فأقبلت نحوه بهيئة متعجرفة ، تقدح عيناها شررا ، حتى وقفت أمامه ، وسألته بازدراء :
أأنت المدعو محجوب عبد الدايم ؟
... نظر إلى المرأة بإنكار وقال بصوت منخفض مشفقا من صوتها المرتفع الذي يصك أذني أبيه :
نعم يا سيدتي ، أنا هو ..
فعبست حانقة ولوت شفتيها اشمئزازا ، وقالت بلهجة قاسية :
- هلا دللتني على الحجرة التي ينفرد فيها زوجي بالسيدة المصونة زوجك ؟!
فنفذ الكلام إلى قلبه فشقه شطرين ، وخارت قواه ، وأوشك أن يذهل عما حوله ...." ( ص 193 ) .
شخصية محجوب عبد الدايم من أشهر الشخصيات الروائية ، واكتسبت شهرتها في المجتمع المصري من خلال الفيلم السينمائي الذي حول الرواية إلى فيلم بعنوان " القاهرة 30" . ويصور الشاب محجوب عبد الدايم الذي قايض الفقر بعرضه وشرفه ، وهو في الرواية ما زال يملك بقايا إحساس بالشرف يجعله يتمزق كلما تذكر سلوكه المشين وموقفه المخزي !
هناك نفر من مثقفينا اللامعين يشبهون محجوب عبد الدايم في موقفهم الفكري والإنساني ، ولكنهم للأسف لايملكون بقايا الشعور الذي يملكه محجوب فيتمزقون كلما تذكروا سلوكهم المشين وموقفهم المخزي ، لأنهم حريصون على الأضواء وعلى العائد المادي والأدبي الذي يحصلونه نتيجة بيع شرفهم وكرامتهم وضميرهم ، وهو ليس الزوجة بالضرورة ولكنه الانحياز إلى الحق والعدل والإنسان .
كان الانقلاب العسكري الدموي الفاشي فرصة كاشفة لحقيقة المثقفين المزيفين الذين ظلوا يجأرون بالحديث عن الديمقراطية والحرية والكرامة الإنسانية . لقد تحولوا بين عشية وضحاها إلى خدام للبيادة ، وملمعين لها ، وتغاضوا عن الشرعية وإرادة الشعب وسلطة الأمة ، وانحازوا سريعا إلى العسكر والدولة البوليسية والقمع الذي لا يتوقف على مدار الساعة . ثم كانت القاصمة حين راحوا يروجون للضابط قائد الانقلاب ويسوغون جرائمه ومذابحة التي تمت في أماكن كثيرة على امتداد مصر ومنها دار الحرس الجمهوري والمنصة ورابعة والنهضة ورمسيس والمنصورة ودلجا وكرداسة وناهيا وميداني التحرير وعبد المنعم رياض وكوبري ستة أكتوبر ...
المثقفون على طريقة محجوب عبد الدايم لا يعنيهم حرية الشعب ولا كرامته ولا إرادته ، ولذا وافقوا على شطب إرادة الشعب المصري التى عبر عنها في ستة انتخابات واستفتاءات متتابعة تمت بإشراف القضاء والجيش ومراقبة المنظمات الحقوقية العالمية . وكان موقفهم في غاية الخزي والعار حين قبلوا أن يكون الفيصل في تقرير مصير الشعب المصري هو جنزير الدبابة وأزيز الأباتشي وصوت الرصاص الحي .
لقد تعاون المثقفون وفق منهج محجوب عبد الدايم على إنهاء أعظم ثورة قام بها الشعب المصري في يناير 2011 وتحدث عنها العالم بتقدير واحترام كبيرين ، وآثروا أن يكونوا جزءا من الانقلاب الدموي الفاشي وعونا للبيادة والترويج لحكمها وفقا لما فعله جمال عبد الناصرعقب انقلاب يولية 1952م . وتناسوا بدهية يعرفها أدني من له وعي بالفكرة الديمقراطية وهي أن العسكر لا يمكن أن يصنعوا ديمقراطية حقيقية ولا أن يديروا سياسة دولة وفقا للمفاهيم التى تبني الدولة اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا وعسكريا .
لقد كانت التجربة العسكرية في حكم مصر على مدى ستين عاما بائسة ومريرة .لقد تعرضت مصرتحت حكم العسكر لثلاث هزائم قاتلة في عام 1956 ، وفي حرب اليمن التى استمرت خمس سنوات 62-1967 ، وفي يونية 1967م ، تم فيها تدمير الجيش وقتل الألوف من أبنائه ، وأسر الألوف من خيرة ضباطه وجنوده ، ومازالت آثار هذه الهزائم قائمة على الأرض ، ناهيك عن العناء الذي تخلف عنها اقتصاديا وسياسيا وحضاريا وتعليميا ودبلوماسيا ، ما زلنا نعيشه حتى الآن.
من العار أن يتفرغ المثقفون وفق فلسفة محجوب عبد الدايم للتشهير بدين الأمة وشيطنة الفصائل الإسلامية والتحريض على استئصال من لا يوافق على خدمة البيادة والركوع للعسكر . فهذه ليست مهمة المثقفين . إن مهمتهم أرقى من ذلك بكثيروهي مقاومة الديكتاتورية والطغيان والاستبداد . لن أذكرهم بموقف نظرائهم في أميركا اللاتينية الذين صنعوا ملحمة من أروع ملامح العصر في مقاومة الحكام الطغاة والعسكر المستبدين والبيادة الغشوم . لقد فقد محجوب عبد الدايم عرضه وشرفه بإرادته ومن الصعب استردادهما ما لم يسترد إرادته .
نقلت الأنباء قبل أيام أن أديبا متواضع المستوى يتم النفخ فيه ليكون عالميا (؟) من الموالين للعسكر ذهب إلى عاصمة أوربية ليلقي محاضرة عن إحدى رواياته المبتذلة فتفرغ للدعاية للعسكر والدفاع عن انقلابهم العسكري الدموي الفاشي ، ولما جوبه المذكور برفض مقولاته الموالية للعسكر ، دافع عنه خلفاء محجوب عبد الدايم ، وسموا التصدي لآرائه بالاعتداء الاخواني على صاحب الذات الأدبية المقدسة! وقالوا إن : جماعة أنصار الرئيس المعزول محمد مرسي، هتفوا ضد الجيش، واستفزوا صاحب الذات المصونة باتهامه بالتحيز للعسكر، وتعالت أصواتهم بشعاراتهم المعتادة. وأن المذكوررفض إهانة الجيش المصرى، وزعم أن الجيش تدخل فى الوقت المناسب لحماية الوطن من الخونة (؟!)، فصعد أنصار مرسي، على المنصة، واعتدوا عليه بالميكرفون واللكمات، ( هذا كذب صارخ !) وحاولت الجالية المصرية فض الاشتباك ! ولم يقل خلفاء محجوب عبد الدايم إن المذكور رفع يديه وأصابعه بإشارات بذيئة يستخدمها السوقة وحثالة المجتمع في الرد على منتقديه من رافضي الانقلاب العسكري الدموي الفاشي !
يتناسى خلفاء محجوب عبدالدايم في الثقافة والصحافة أن هناك مجازر ارتكبها قادة الانقلاب ، وأن هناك جرحا ينزف داخل كل بيت مصري بسبب شهيد أو جريح أو معتقل أو ملاحق، وأن مصر التي أبهرت العالم بثورتها في يناير تتعرض الآن لحصار معنوي من شتى دول الأرض باستثناء ست دول شاركت في الانقلاب أو مولته أو وافقت عليه .
إن المثقفين السائرين على درب محجوب عبد الدايم سعداء بالمناصب التي بلغوها ، والجوائز التي نالوها ، والشهرة التي أسبغت عليهم ، والمكاسب المادية التي تتدفق عليهم ، وظهورهم الذي لا يتوقف في قنوات الدعارة والفلول والتلفزيون الرسمي ، ثم إنهم كشفوا عن تهافت ادعاءاتهم التي لا تتوقف أيضا عن ليبراليتهم ويساريتهم وناصريتهم وتقدميتهم وديمقراطيتهم .. حين أيدوا ترشيح قائد الانقلاب رئيسا للجمهورية بوصفه الرجل المناسب كما يزعمون وهم يعلمون أنه لن يسمح بليبرالية ولا اشتراكية ولا حرية ولا ديمقراطية .
قد يلتمس بعضهم العذر لمحجوب عبد الدايم ، ولكنه لن يجد عذرا لمثقفي وكتاب الانقلاب فهم لايتمزقون كلما تذكروا سلوكهم المشين وموقفهم المخزي !