سجال القلم والكتاب

أبو بكر قرط

عضو تجمع الكتاب الفلسطينيين الشباب

[email protected]

وقف القلم يوماً موقف المتباهي بطلعته، المعجب بنفسه، يجر ثوبه بطراً واستعلاء، ويكاد يعلو بخيلائه على طبقات الجو، ثم أخذ ينظر إلى الكتاب نظرة شزراء جاحدة لكل فضل، متنكرة لكل معروف، مستخفة به كاستخفاف الناس اليوم بمن عجز عن مباراتهم في حثو الأموال وتضخيم الأرصدة. قال القلم للكتاب: بي يُكتب التاريخ، وتسطّرُ الأحداث، وبمدادي يَرسم الأدباء آيات الجمال، ويتفننون في تحويل أفراح الروح وأتراحها إلى روائع أدبية تخلدهم في ذاكرة التاريخ، ففضلي على الأدباء قديم قدم عاد، لولاي أيها الكتاب المسكين ما كنت لتسمع بابن المقفع  ونثره، أو شكسبير ومسرحياته، وبدوني ما كانت فرنسا لتفتخر بفيكتور هيجو وبؤسائه، أنا الذي أذنت لجورج برنارد شو أن يجعل من نساء أوروبا سخرية كل لسان، وبي هتك سيغموند فرويد عذرية الفلسفة بعقدته التي سماها "عقدة أوديب" فرسم بتحليله النفسي تصوراً غريزياً لصورة الأم في عقل طفلها، وهي الصورة التي تتنزه عنها البهائم، وتستعيذ بالله من قبحها الأنعام، إلا أن بعض المتفلسفين من البشر استطابها واستعذبها حتى تعجبت منه البقر، وذهلت من حمقه  البغال، واسشعرت الحمير فضل الله عليها إذ لم يهبها عقلاً كعقول هؤلاء ! أيها الكتاب ألا تعلم من هو القلم ؟!!، القلم هو الذي سواك كتاباً، وسود صفحاتك بأكاذيب المؤرخين، وهجوم النقاد على الأدباء، وكذب الساسة، وتدليس التجار على المشترين، وسفسطة الفلاسفة، ودجل الإعلاميين، ومناجاة العشاق، وملاحاة المختلفين، فكفاني فخراً أني صلة المشاعر والأحاسيس بين الكاتب والناس، من يُخرج الفكرة من محبسها سواي ؟! ومن يبعث لواعج النفس وخوالجها من مرقدها غيري، ألا ترى اسمي يخلع على الأديب فيسمى كاتباً، ثم انظر إلى ما خطته أيدي المؤرخين من عهد فرعون إلى عهد ورثته اليوم تجدني ملاذ المضطهدين لسب كل مستبد، ولعن كل متجبر، ونفثة كل محزون ضاق صدره بالغم، وغلى بالهم. فيا ضيعة التعبير إذا غبت، وسلام على الأدب إذا افتقدت، وأحسن الإله عزاء البشرية في الفلسفة والفكر والأدب والشعر إذا لم تجد قلماً تخط بها حضارتها وترسم به معراجها نحو قمة المجد السامقة.

ظل الكتاب صامتاً صمت الحكيم الواثق من نفسه حتى أنهى القلم خطبته النرجسية المطولة، ثم نظر إليه بعين حانية ملؤها الشفقة على عنتريات القلم الجوفاء التي شابه فيها تلك المعارك الكلامية الضارية التي يخوضها الانهزاميون بعد سقوط مدوٍ يعجزون عن تبريره. قال القلم للكتاب، لقد وقعت في خطيئة تزكية النفس أيها القلم المراهق، وما كان العاقل ليزكي نفسه، فلو أُلهمت الصمت وتركت آثارك تستميل الناس إليك لجمعت الحسنيين: حسن التواضع، وحسن الاعتداد بالنفس، لكن الذي غر إبليس قد أغراك، وما أرى من فضيلة تجتمع مع الكبر، فلو اجتمعت فضائل الأرض كلها في متكبر ما أقام له أحد وزناً، بل كان في نظر الناس كالريشة في مهب الريح، أو كالطبل يسمع صداه من بعيد وهو أجوف، ولو اجتمعت رذائل الأرض في متواضع معترف بخطئه مقر بذنبه لكان في مندوحة من أمره ولُوضع موضع الإعذار، أيها القلم، الصمت عن تمجيد النفس رَفعٌ لها، وتمجيد النفس وضعٌ لها، لكنك ما زلت في فلسفة الحياة طائشاً مغروراً، وإني لأرجو الله أن يلهمك رشدك قبل أن تعثر عثرة لا تقال، أو تسقط سقطة لا قيام من بعدها. وما أرى خطيئتك تختلف عن خطيئة إبليس حين أبى الإذعان لأمر الله بالسجود لآدم، وبماذا تختلف "أنا" إبليس عن أناك ؟!! إبليس قال:" أنا خير منه" وأنت قلت:"أنا خير منك"، فكان إبليس مذؤوماً مطروداً من رحمة ربه، ولم تزل أنت ممعناً بتمجيد ذاتك حتى تصاغرت أمام عنترياتك كلمات إبليس المعدودة. أيها القلم ما كنت لأتغنى بالسجايا والمناقب كما فعلت، لكني أسلمك للأيام حتى تؤدبك.

وحين سمع القرطاس هذا السجال المتقد، دخل محكماً نفسه بينهما، ولم يخل تحكيم القرطاس من انحيازٍ إلى الكتاب حينما رأى تعجرف القلم وجنوح الكتاب إلى عدم الدفاع عن نفسه، فقال القرطاس موجهاً خطابه إلى القلم: ما أنت إلا ثمرة من ثمرات الكتاب...وإن يكن لك من فضل أيها القلم فإن مرده إلى الكتاب، ألم تكن جائعاً فأطعمك البيان حتى صار مدادك سيالاً بالحكمة؟! ألم يوص الملأ الأعلى بالكتاب إذ كانت الآيات تتنزل بالحض على القراءة، فكانت كلمة الله الأولى على قلب رسوله،صلى الله عليه وسلم، "اقرأ" ؟ فكان أمر الله الأول للناس بالعكوف على الكتاب، حتى قبل أن يأمرهم بالتوحيد لأن الوحي الذي نوّر الكون بإخراجه من ديجور الضلال إلى سنا الإيمان لا يستجيب إليه جاهل، فكان الكتاب الباب الذي يلج منه الإنسان لتلقي نفحات السماء المباركة، والمدخل إلى سبيل الخلاص..أيها القلم، إن الكتاب هو الذي يعرض لك التاريخ بحلوه ومره لتأخذ منه العبر، وترى سنة الله فيما خلا من الأيام وغبر، حتى تكتب أنت تاريخاً جديداً تبنيه على ما أودع فيك الكتاب من قصص الأولين. ثم نظر القرطاس إلى الكتاب فقال: لله درك أيها الكتاب من متصدق سخي ومنفق جواد، وكريم سحاء لا يبخل على أقلام ملحاحة لا تجد في نفسها حرجاً من سؤالك البيان إلحافاً، فما نهرتها عن باب بلاغتك، ولا دفعتها عن مورد أفكارك، بل صببت عليها العلم من فيوض حكمتك، ورويتها من نمير ينابيعك الدفاقة، وأمطرت عليها ماء ثجاجاً، ثم أخفيت صدقتك على هذه الأقلام الجائعة، فما أبطلتها بمن ولا أذى، وما زلت ترفق بها رفق الوالد بولده، وتأخذ بيدها برفق وحنان، وتحنو عليها حنو المرضعات على الفطيم، وتتدرج بها في مراتب المعرفة حتى استحالت هذه الأقلام جداول وأنهاراً تسقي الصادئين، وتغيث الملهوفين، وتبني سلم النجاة لتعرج عليه الشعوب حتى تبلغ قمم الحضارة السامقة، وعلياء المجد الإنساني، فيا ليت هذا القلم جائع الأمس لا ينسى الفضل بينه وبين الكتاب، وليته لا ينسى ذلك اليوم الذي وقف فيه بباب الكتاب خالي الوفاض، صفر اليدين، فما رده الكتاب خائباً، بل أجزل عطاءه وأحسن وفادته.

وحينها عرف القلم قدره، فراجع نفسه،وهدي إلى رشده، وعلم أن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، فطبع قبلة على جبين الكتاب وآتاه ميثاقاً غليظاً أن لا يفتئت عليه، ولا يقضي أمراً دونه.