نشأة الدولة في الغرب

صهيب محمد أفقير

أستاذ باحث في تاريخ الإسلام وحضارته

الدار البيضاء ـ المغرب

مفهوم الدولة من المفاهيم التي تطور معناها عبر التاريخ، واختلف معناها في الفقهين السياسيين الغربي والإسلامي؛ ذلك أن هذا المفهوم يحمل دلالات تاريخية وثقافية متباينة. حين نقوم بدراسة مفهوم الدولة وتطوره في التاريخ الإسلامي ونقارنه بتطوره في التاريخ الغربي، الأوربي على الخصوص، ندرك ما بينهما من الفروق في التطبيقات العملية والحمولات الفكرية.

شغل مفهوم الدولة الساحة السياسية، سواء من حيث كونها كيانا بشريا له خصائصه التاريخية والجغرافية والثقافية. أو من حيث اعتبارها كيانا سياسيا، اي مجموعة من السلطات: سلطة تشريعية، وسلطة تنفيذية، وسلطة قضائية، موكول إليها بتدبير الشأن العام للجماعة أو المجتمع. وإخضاع الرعايا أو المواطنين لرغبة الفئة الحاكمة أو للقانون. فلقد اتفق فقهاء السياسة على أن الدولة هي الذروة التي تتوج البنيان الاجتماعي، وتتميز عن القبيلة في كونها تنفرد بسيادتها على جميع الاحزاب والكيانات البشرية التي تنشط وتقطن باقليم الدولة. فالدولة وسيلة لتنظيم الناس بالقانون (الحقوق والواجبات). فهي التي تصدر القوانين، وتحرس على احترام حقوق المواطنين ورعايتها وتعاقب من يعتدي عليها.

أولا : أصل كلمة دولة:

إن كلمة دولة قديمًا كانت تدل على وجود تجمع بشري، في مجال جغرافي: هو مساحة من الأرض تتوفر بها أسباب العيش، وضرورات الحياة وعناصر الاقتصاد كالماء والمرعى والمناخ الجيد. فهاته العوامل في الغالب هي التي تجلب السكان وتنشط التجارة، وتكثر العمران البشري، وحيث وجدت الجماعة، وجد التنافس على الزعامة وكانت النتيجة سيطرة فئة على أخرى، وبروز الزعامات. يتشكل السكان بطريقة طبيعة تقوم على التكاثر، بالتزاوج والتوالد، وتعاقب الاجيال، وتشكل العائلات والقبائل، وتكون القرى والمدن، وبروز الشعب. 

ثانيًا : تعريف الدولة :

التعريف اللغوي: الدولة في اللغة بتشديد الدال مع فتحها أو ضمها ، العاقبة في المال والحـرب ، والإدالة الغلبة، أديل لنا على أعدائنا أي نصرنا عليهم، وكانت الدولة لنا، اي كانت الغلبة لنا. ومن هذا المعنى جاء مصطلح الدولة نتيجة لغلبتها، لأنها قائمة على التنافس، وإلا لما كانت دولة.

 التعريف الاصطلاحي: لا مشاحة فيه بين فقهاء السياسة. تعرف الدولة بأنها؛ شعب مستقر في إقليم له حدود معينة، وخاضع لسلطة سياسية حاكمة بالقانون، فهم يتفقون عليـه لأنه يتضمن العناصر الرئيسة التي لا بد منها لتحقيق السيادة، وامتلاك القوة لتطبيق القانون وتنفيذ الاحكام، وحفظ النظام، وإن اختلفوا في صياغة التعريف لغويا وتفصيليا فانهم يتفقون في الحدود والعناصر.

تعريف الدولة في المعجم الفلسفي :

الدولة هي: State وتعني: مجتمع منظم له حكومة مستقلة وشخصية معنوية متميزة عن المجتمعات الأخرى المماثلة التي تربطه بها بعض العلاقات. وتختلف الدول عن بعضها البعض، من حيث مساحتها ونظام الحكم فيها، فمنها دول كبيرة واخرى صغيرة، ومنها دول ملكية وأخرى جمهورية· 

ثالثًا: أصل نشأة الدولة:

 البحث عن أصل نشأة الدولة ككيان سياسي وبشري، يبدو مسالة تقديرية فقط ذلك أن الدولة ظاهرة اجتماعية يرجع أصلها إلى الحضارات القديمة، الموغلة في التاريخ، ونحن اذ لانتوفر على كل الوثائق المتعلقة بشؤونها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. لا يمكننا دراسة تطورها، نظرا لان تطور الدولة تتفاعل فيه كل تلك الاوضاع.

1ـ  نظرية القهر والغلبة عند ابن خلدون:

بإلحاحه وسؤاله الدؤوب عن العلل والأسباب للحوادث والوقائع ومحاولة منه للوصول إلى إجابات منطقية.   فقد حاول ابن خلدون  الاجابة   عن الاشكالات التاريخية التالية: كيف تنشأ الدول؟ وما عوامل تمكنها وازدهارها؟ وما أسباب هرمها وانهيارها؟، وتوصل الى دور القوة والغلبة الذي يفرضه الاجتماع البشري، في نشوء الدول. إن الدولة حسب ابن خلدون هي نتاج الغلبة، فمصدر السلطة هو القوة المادية والجسدية. فالجماعات كانت تعيش في صراع مستمر مع بعضها لتحقيق السيطرة، وضمان البقاء، ونهاية الصراع انتصار جماعة على اخرى لان منطق الصراع، يفرض وجود غالب ومغلوب، والغالب يفرض سيطرته على المغلوب، وعلى الارض، وعلى الموارد الاقتصادية، فالقهر والغلبة حسب نظرية ابن خلدون هي التي تنتج الدولة، وهي التي تضمن استمرارها. ويبقى الصراع قائما للدفاع عن الوجود والبقاء على رأس السلطة.

و من أولى نتائج هذه النظرية فكرة التعاقب في الحضارة. ساوى ابن خلدون في دورة التغيير بين الإنسان والدولة، فالدولة، في نظره، لها عمر كعمر الانسان؛ يولد ثم يكتمل نموه، ثم يهرم فيموت، وعلى هذا الأساس تمر الدولة بمراحل: البداوة التي شبهها بمرحلة الطفولة، والازدهار الذي شبهه بمرحلة الشباب، وأخيرا التدهور شبهه بمرحلة الهرم ثم الموت عند الانسان.

وقد تأكد صحة هذه النظرية عبر التاريخ، حيث قامت العديد من الدول على أساس القوة المادية، وانتهى بها الأمر الى الضعف والزوال، بعد ظهور قوة أخرى غالبة.

2- نظرية التطور التاريخي :

يرى أصحاب هذه النظرية ـ ومنهم جارنر ) Garner وسبنسر(Spencer) ـ بأن الدولة لم تنشأ نتيجة القوة كما يرى ابن خلدون ولا نتيجة التطور العائلي كما يرى أفلاطون وأريسطو وبودان أو العامل الديني أو العقد كما يرى جون لوك وغيره، وذلك أن الظواهر الاجتماعية ومن بينها الدولة لا يمكن رد نشأتها إلى عامل واحد، فالدولة عندهم هي نتاج تطور تاريخي وتأثيرات متعددة كان نتيجتها ظهور عدة دول تحت أشكال مختلفة، لذلك فإن السلطة في تلك الدول لا تستند في قيامها هي الأخرى على عامل واحد بل تستوجب تضافر عدة عوامل منها القوة والدهاء والحكمة والدين والمال والشعور بالمصالح المشتركة التي تربط أفراد الجماعة بعضهم ببعض، فالدولة وفق رأي أنصار هذه النظرية هي ظاهرة اجتماعية نشأت بدافع تحقيق احتياجات الأفراد. وعليه فهذه النظرية بالرغم من عموميتها تعد أقرب النظريات إلى الواقع.

3- النظرية الماركسية :

يرى ماركس أن ظهور الدولة أو السلطة السياسية بمعناها الواسع ارتبط بالعامل الاقتصادي بالدرجة الاولى، باكتشاف الإنسان لأدوات الإنتاج، للآلة الزراعية البدائية، فقبلها كان الناس بدائيون يعيشون على ما تجود به الطبيعة من ثمار و أعشاب وصيد فلا وجود للملكية الخاصة، أما بعد اكتشاف الآلة الزراعية نتج عنه ظهور مفهوم الغلة التي هي قابلة للتخزين و التملك، من هنا بدا الصراع بين الأفراد حول ملكية أدوات الإنتاج و ملكية الأراضي والغلة الزراعية، وكانت الغلبة للأقوى ليست فقط بالمعنى المادي بل وأيضا بالمعنى الفكري . و يمكن أن نقول، إن النظرية الماركسية تقترب من نظرية القوة من حيث أن الدولة هي أداة ضبط وإخضاع و أن استمرارها متوقف على تملكها لقوة عسكرية كافية للدفاع عن وجودها.

4ـ نظرية العقد الاجتماعي:  

 تتجلي فكرة العقد الاجتماعي في أن الناس كانوا يعيشون في البداية على الطبيعة القائمة على النزاعات والحروب مما دعا الناس إلى التفكير في إنشاء تنظيمات اجتماعية تنظم علاقاتهم الاجتماعية من أجل الدفاع عن أنفسهم من الأخطار الخارجية كالطبيعة أو الأقوام الأخرى, هذا يتم من خلال تنازل كل فرد عن قسم من أنانيته لكي يلتزم أمام الآخرين ببعض الواجبات من أجل تكوين تنظيم يساعدهم على البقاء ولكي يستمر تنظيم الأفراد الاجتماعي يجب أن يخضعوا إلى قادة أكفاء قادرين على توجيه حياتهم الاجتماعية توجيهاً يخدم حاجاتهم وحمايتهم، كل هذه الظروف عملت على ظهور فكرة العقد الاجتماعي بشكل طوعي دون إلزام أو إكراه من قبل أفراد المجتمع. إن النقطة المركزية التي ظلت تدور حولها نشاطات الإنسان لفترة طويلة هي العلاقة بين أفراد المجتمع بعضهم البعض من جهة وبين عناصر البيئة المتنوعة التي تحيط بهم من جهة أخرى, هذه تمثل مرحلة تاريخية تلتها مرحلة أخرى جاءت نتيجة تطور المجتمعات ألا وهي علاقة الحاكم بالمحكوم.  . و هناك ثلاث مفكرين اختلفوا في تقييم العقد الاجتماعي و هم :

أولا: توماس هوبز Thomas Hobbes 1588-1679

يتصور لوك أن المجتمع قد مر بمرحلتين عبر تطوره التاريخي، مرحلة بدائية يسميها حالة الطبيعة، عاش فيها الانسان حياة صعبة مليئة بالمشاكل، ومرحلة حضارية هي مرحلة المجتمع المدني المتمثل بظهور الدولة وسلطة القانون. يرى هوبز أن الإنسان ليس اجتماعيًا بطبعه بل هو أناني محب لنفسه لا يعمل إلا بالقدر الذي تتحقق معه مصالحه الشخصية، و كانت القوة هي السائدة في العلاقات بين الأفراد إلا أن الإنسان أدرك وجوب الانتقال من حالة الفوضى إلى حالة الاجتماع المدني، فتولدت ضرورة التعاقد لدى الجميع على أن يعيشوا معا تحت رئاسة زعيم يتنازلون له عن كافة حقوقهم الطبيعية و يكلون له أمر السهر على مصالحهم، ونجد أن هذا العقد لا يلزم إلا أطرافه و بالتالي فالملك لا يلتزم بشيء لأنه ليس طرفا في العقد. 

ثانيا: جون لوك john Locke 1632- 1704 

الإنسان في تصور جون لوك كائن اجتماعي بطبعه، ولا يستطيع أن يعيش خارج نطاق الجماعة في نظر لوك. ويصور ذلك بقوله: (جعل الله الإنسان مجرد مخلوق، ووجد أن ليس من صالحة أن يظل وحيداً، فجعله في حاجة اضطرارية، وميل للاجتماع كما هياله الفهم واللغة حتى ييسر له هذا السبيل). يقول لوك أن حياة الفطرة لم تكن فوضى و اضطراب بل كانت حياة سعادة في ظل قانون طبيعي مستوحى من العقل البشري و الإلهام الإلهي ، لكنها مشوبة بمشاكل و أخطار و لذلك شعر الفرد بضرورة الدخول مع الآخرين في عقد يقم المجتمع لحماية حقوقه ، لذلك كان العقد الاجتماعي بين الشعب من جانب و السلطة الحاكمة من جانب آخر و لم يتنازل فيه الأفراد عن كل حقوقهم بل فقط القدر اللازم لإقامة السلطة، و بالتالي أصبحت سلطة الحاكم مقيدة و أن الشعب ملزم بواجب الطاعة تجاه الحاكم طالما انه يعمل في الحدود التي رسمها العقد فإذا جاوزها إلى غيرها كان للشعب حق مقاومته بل و عزله من منصبه. لقد أكد لوك أن العقد الاجتماعي هو الأساس الأول لتكوين الدولة، فالدولة تنشأ عن اتفاق الشعب بالإجماع على أن يخضعوا لحكم الأغلبية، فالدولة تظهر إلى الوجود عندما يقوم نفر من الناس وبموافقة الجميع بتكوين جماعة ثم يجعلون هذه الجماعة هيئة واحدة لها سلطة التصرف كهيئة واحدة بموجب إرادة إقرار الأغلبية.

ثالثا: جان جاك روسو jean jack Rousseau 1712-1778:

 لقد خالف روسو توماس هوبز في وصفه للحياة البدائية الطبيعية، حالة الإنسان البدائية اعتبرها مليئة بالسعادة والاستقرار و الخير و الحب، و الانتقال إلى حالة الاجتماع المدني كان بهدف الارتقاء و تجنب بعض العقبات التي اعترضت وجوده في سبيل المحافظة على حياته.

يرى روسو أنّ التجمّع حدث نتيجة لعوامل اقتصادية تمثلت في الاختراعات الجديدة وتطور أدوات الإنتاج وظهور الملكية الخاصة، ويعتبر ان هذه الاخيرة رسمت منحنى تاريخياً مهماً في مسيرة البشرية.

فبسبب الملكية الخاصة، حسب روسو، ظهرت قيم سلبية مناقضة للقيم الإيجابية التي كانت سائدة في الحياة الطبعية كالجشع والمنافسة والسيطرة وعدم المساواة،  الشيء الذي أخرج البشرية من حالتها الطبيعية السعيدة.

وبسبب الملكية الخاصة انقسم الناس إلى أصحاب أملاك وإلى عمّال، مما أوجد نظام الطبقات الاجتماعية. لقد أدرك الملاكون أنّ من مصلحتهم إنشاء "حكومة" تمتلك القوة لتحمي ملكياتهم من الذين لا يمتلكونها، وهكذا تمّ تأسيس الحكومة من خلال "عقد" ينصّ على توفير العدل والمساواة والحماية للجميع بلا استثناء، على الرغم من أن الغرض الحقيقي من إنشاء مثل هذه الحكومة هو تكريس الامتيازات والحفاظ على الوضع القائم. وهو السبب في غياب العدل وتعاسة الإنسان.

والحل عند روسو هو في تنازل كل فرد عن حقوقه للمجتمع كله التي هي الإرادة العامة، فالإرادة العامة هي صاحبة السيادة و هي عبارة عن مجموعة الأفراد و انطلاقا من ذلك يطرح روسو مفهومه للحكم الديمقراطي المباشر القائم على سيادة الشعب الممثل بالإرادة العامة. و لذلك رفض روسو وجود سلطات تشريعية و تنفيذية مستقلة عن سلطة الشعب، فالشعب هو الذي يشرع و الحكومة هي مجرد جهاز تنفيذي ينفذ إرادة الشعب. و بالتالي فهنا تحدث عملية التعاقد بين الأفراد فقط و لكن على أساس أن لديهم صفتين كأفراد طبيعيين ثم كأعضاء في الجماعة السياسية ، وان الأفراد تنازلوا عن كل حقوقهم دون تحفظ، وان الأفراد يكتسبون حقوق جديدة كبديل عما تنازلوا عنه من حقوق.

(رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ). البقرة:201.