الديمقراطية والدستور.. حماية متبادَلة
علي حسين
مؤسسة النبأ للثقافة والاعلام
الديمقراطية كما يراها البعض هي فكر ومنهج ومنظومة حياة متكاملة، إذا تمكن شعب ما من أن يعيشها كما هي على حقيقتها، فإن السبب هو الدستور الفاعل الذي يوفر الحماية اللازمة للديمقراطية، وهكذا تكون العلاقة بين الدستور والديمقراطية محورية لا فكاك او خلاص منها، إلا اذا اردنا أن ندمر الديمقراطية، وان نلغي الدستور، بمعنى أوضح، لا ديمقراطية حقيقية من دون دستور ضامن قوي وفاعل، ولا دستور حقيقي من دون ديمقراطية جوهرية راسخة.
وغالبا ما تتعلق الديمقراطية بفهمنا وتطبيقنا وحمايتنا للنظام الانتخابي، الامر الذي يستدعي منا معرفة ذلك النظام، وفهم بنوده، ومراقبة النتائج التي نتوخاها منه، لكن على العموم هناك اتفاق عام على مفهوم النظام الانتخابي، فهو يعني ببساطة، قانونا تشريعيا ينظم عملية الاقتراع بأنواعها، يمثل المواطن ويحمي صوت الناخب ويضمن توافر العدالة بين المتنافسين، بهذا التعريف الواضح لا توجد مشكلة في تحديد اهداف النظام الانتخابي الذي ينظم عملية الانتخاب.
هناك سلسلة من الضمانات لا مناص من تحقيقها، إذا أرادت الدولة أن تضمن نظاما انتخابيا عادلا، يحرص كل الحرص على حماية صوت الناخب، وذهابه الى مكانه الدقيق والصحيح، تلك الضمانات تنتهي الى الدستور، والى الاستشارية او الديمقراطية التي ينبغي أن يحمي بعضهما بعضا، فالدستور لابد أن يشكل الحماية اللازمة للديمقراطية من اجل تحصين النظام الانتخابي من الزلل، وبالتالي حماية صوت الناخب، وذهابه الى مكانه الصحيح.
وقد ركّز الفلاسفة منذ أوائل انشغالهم بالمنهج الديمقراطي والانظمة السياسية، على أهمية أن يتحرر فكر الانسان وفعله، ولا يمكن بلوغ هذه المرحلة ما لم يصبح سلوك الانسان متحررا بصورة آلية كسلوك تلقائي وليس قسري او ذا طابع شكلي بحت، ولكن كل الدلائل تشير الى ان معاناة الانسانية كبيرة، لدرجة أن القانون كان مفقودا، ولم يكن يحمي سوى مصالح وجبروت الطغاة، حتى جاء الاسلام ليضع النقاط على الحروف في هذا المجال.
لقد ورد في مقدمة كتاب الشورى للمفكر الاسلامي الكبير، الامام الراحل آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله): أن (فكرة الشورى التي جاء بها الدين الإسلامي الحنيف في عصر لم يكن هناك قيمة للإنسان والقانون، كانت بمثابة المشعل الذي أضاء للبشرية طريق الخلاص من الاستبداد والديكتاتورية).
الديمقراطية الاستشارية والدستور
وعندما بزغ نور الاسلام، كان العالم كله يخضع لحالة فريدة من الطغيان، وكان المنهج الديمقراطي غائبا تماما عن الفهم السياسي، فيما كانت القرارات الفردية للقادة المتجبرين، ملوكا وأمراء، هي السائدة في عموم العالم، حتى ظهرت الاستشارة، كمبدأ لا مناص منه في حياة المجتمع الاسلامي، بعد أن كان الرأي محصورا بالطبقة الحاكمة وحدها، وبشخصية الحاكم الأعلى، حتى باتت الحرية حلما بعيد المنال!!.
لذلك يؤكد الامام الشيرازي في كتابه (الشورى في الاسلام) قائلا: (كانت الشورى من بين الأفكار العظيمة التي جاء بها الإسلام واستطاع بهذه الفكرة أن يُحطّم جدار الاستبداد والطغيان ويعيد للإنسان كرامته المفقودة، فبنى على ساحل هذه الفكرة أعـظم دولة في التاريخ البشري).
لقد كانت فكرة الشورى مصانة ومحمية بمبادئ الاسلام، وكانت الحماية ليست شكلية، بل تم تحويل المنهج السلوكي العام الى الاستشارة في كل شيء، وقد شاعت مشاركة الرجال لبعضهم في الحوار والنقاش والاسترشاد بالرأي والرأي المقابل، حتى قال الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام): (من شاور الرجال شاركهم في عقولهم)، في حين كان السائد هو فرض الرأي الواحد، وغالبا ما كان رأي الحاكم الاعلى يتقدم على الجميع.
ولعل الخلل الأكبر والاخطر في الحكومات الاسلامية المعاصرة، انها كانت ولا تزال تفتقر للتعددية، فضلا عن ضعف المنهج الديمقراطي الاستشاري التحرري، وقد تناقلت الاجيال مورثا قسريا في الحكم السياسي سواه ايضا، بمعنى ان معظم السلطات السياسية وحتى الاجتماعية كانت تنتهي الى نوع من الاكراه يلغي بشكل قاطع هامش حرية الرأي والتفكير، بسبب سلطة الحاكم في الدولة، وسلطة الاب في العائلة!.
نعم لقد سادت حياة الاكراه في عوائل المسلمين عموما، حتى صار الاب في العائلة مثل السلطان الاوحد في المملكة، على الرغم من ضيق مساحة العائلة، فانتقلت هذه السلطة الابوية عبر الاجيال، ليتحول المسلمون الى مجتمعات صانعة للطغاة بجدارة!، فلا ديمقراطية ولا حرية للرأي، ولا مكان للاستشارة، فضاع حق الاكثرية والاقلية معا، وبقي الحاكم الفرد هو الذي يتصرف في شؤون الرعية (الصامتة) كما يشاء، وكان رأيه هو الصحيح دائما، حتى لو كان غير صائب، ولعل الكثير من قادة المسلمين قادوا دولهم وشعوبهم الى كوارث يندى لها الجبين، بسبب قرارات فردية طائشة، أبتْ أن تشرك أحدا مع قرار السلطان، فكانت الكارثة تحدث أمام مرأى الجميع، من دون أن يتفوه احد بكلمة!.
هكذا تستمر حالة القهر في ظل دستور معطّل، وديمقراطية شكلية خائبة، مع الغياب الفعلي لنظام برلماني يضمن حقوق الاكثرية في الانتخاب والاختيار، ويحمي الاقليات من التجاوز وغمط الحقوق، على الرغم من ان النظام البرلماني اثبت نجاحه في عدد من التجارب السياسية، كان دستورها فاعلا وقويا وملزما، في ظل ديمقراطية داعمة للدستور، فنجح النظام البرلماني بسبب العلاقة التآزرية المتبادَلة بين الديمقراطية والدستور.
لهذا يقول الامام الشيرازي حول هذا الموضوع: (لقد ثبتت بالتجربة إنّ النظام البرلماني فـي بلاد ما سيكون ثابتاً ومستقراً إذا كانت هناك أحزاب نشطة تتنافس فيما بينها فـي الرأي والعقيدة وتبحث في القضايا السياسية وتضع آراءها واتجاهاتها أمام الرأي العام من أجل التحكيم، وبمثل هذه الطريقة فقط يمكن إشراك الرأي العام فـي النقاش السياسي العام وجعله على رغبة واهتمام بالشؤون السياسية في البلاد).
نتائج حماية الدستور
هناك نتائج يمكن أن نلمسها لمس اليد، ونراها بالعين المجردة، عندما يكون الدستور قويا فاعلا ومصانا، لان الدستور هو دعامة أساسية لبناء الدولة المدنية، وأن الديمقراطية تشترك معه في تحقيق أهداف الامة، ولكن هناك وسائل وسبل لابد من الالتزام بها، بمعنى نحتاج الى أن نحمي الديمقراطية، ولن يتحقق هذا إلا بالدستور القوي الراسخ الذي يضمن الحقوق والواجبات، بصورة مطلقة لا مجال لأي خلل فيها مهما كانت نسبته او مساحته صغيرة، حيث أثبتت مجريات التاريخي السياسي القديم والحديث على حد سواء، أن ضعف الدستور يؤدي الى نتائج ذات طابع كارثي، يجعل مصير الامة مرتبط بالطغيان، أو ارادة الحاكم الفردية، حتى يبدو من فهم واستكناه التجارب العديدة، ان ثمة علاقة وشيجة بين الطغيان وضعف الدستور، بمعنى عندما يصبح الدستور شكليا ضعيفا، سوف يكون البديل (سلطانا جائرا، وطغيانا لا حدود له)، وبالعكس من ذلك عندما يحكم الشعب نفسه بنفسه، وفق مؤسسات دولة قوية يضمن الدستور استقلالها وقوتها، فإن الحاكم سوف يكون موظفا حكوميا يتقاضى راتبا شهريا عن عمله القيادي كأي موظف آخر في الدولة، وتبقى عملية صناعة القرار ذات طابع جماعي تشترك فيه المؤسسات، وفقا للتشريعات البرلمانية التي يكتبها ممثلو الشعب تحت قبة البرلمان، في حرية تامة، وديمقراطية ضامنة ومضمونة في الوقت نفسه.
وكما يصف الامام الشيرازي النظام البرلماني بالنجاح، في حالة ضمانه لحق الاكثرية وحماية الاقليات، فإن ذلك سيكون مدعاة للتمسك بدستور قوي ضامن، يحمي الديمقراطية، وينظم الحراك السياسي عموما، سواء بين السلطات الثلاث، او المؤسسات المستقلة او حتى بين الاحزاب والكتل السياسية، لاسيما اننا جميعا نتفق على ان دور الاحزاب جوهري في تمثيل الآراء المتنوعة للشعب، اذا ما استطاعت هذه الاحزاب من المشاركة بقوة وفاعلية في الانتخابات، من اجل تمثيل الجماهير وآرائها الكثيرة، إذ لابد أن تكون هناك جهات تمثل الشعب بصورة امينة وصادقة، وتعبر عن تطلعاتها وتعمل على تحقيق اهدافها، إذ يقول الامام الشيرازي: (إنّ من جملة الواجبات الرئيسية الهامة للأحزاب السياسية هي المشاركة فـي الانتخابات البرلمانية).
ولكن نحن نتفق على أن الاحزاب والبرلمان والانتخابات، كلها ينبغي ان تكون منضبطة تحت إيقاع الدستور، والديمقراطية الحقيقية التي تتشارك مع الدستور في عملية تبادلية للدعم الثنائي المتواصل، إذ يحمي القطبان المهمان للعمل السياسي (الدستور والديمقراطية) بعضهما بعضا.