المكان المقدس والمخيال وذاكرة الجماعة
يوسف يوسف
يعدّ الاحتفاء بالمكان سواء كان هذا الاحتفاء فرديا أو جماعيا ، من الأمور الطبيعية . ومثل هذا الفعل إذا ما وقع ، يحمل دلالة واضحة على جدية علاقة من يقومون بهذا الاحتفاء بالمكان المحتفى به . والمكان الذي يتمثل في معمار هندسي ما ، بالاضافة إلى قيامه بتبديد وحشة الفراغ ، الذي يعتبر في رأينا حدا فاصلا بين مرحلتين من مراحل الوعي البشري ، في مقدوره حينما تتوطد العلاقة به ، تبديد حتى وحشة الزمن اللامتناهي هو الآخر .
وعندما نتحدث عن البيت من حيث هو معمار يقيمه الواحد منا في مكان ما ، لا تغيب عن الأذهان تلك العلاقة بين الأطراف الثلاثة : الفرد ، الزمان ، والمكان . بيد أن شكل العلاقة وقوتها بين الانسان والمعبد تختلف اختلافا واضحا . فهي في الحالة الثانية تصبح بين أفراد ومكان له دلالات أخرى . في الحالة الاولى التي هي حالة علاقة الفرد بالبيت ، فإن هذه العلاقة سوف تنتهي بموت مؤسس هذا البيت ، وحتى إذا انتقل هذا البيت إلى وارثين محتملين ، فإن العلاقة لن تبقى كمثل ما كانت عليه في البداية ، أي أن زمن العلاقة سيقصر ، في حين أن هذا الزمن في حالة المعبد قد لاتكون له نهاية محسوسة ما دام المعبد على قيد الوجود ويؤمه الناس .
صحيح أن الواحد منا إنما يبني البيت من أجل أن يمتلكه ويملؤه بما يريح النفس ويؤجج العواطف والأحاسيس تجاهه ، إلا أن الأمر في حالة بناء المعبد له أبعاد أخرى مغايرة ، تبدو العلاقة فيها من نوع مختلف ، وأشد قوة . ذلك أن المعمار الذي تجلله القداسة يبقى في جانبه الزمني مكانا تاريخيا ، وتتجاوز تأثيراته حدود الفرد والأسرة ، لتصل إلى جموع غفيرة من الناس، وذلك بعد أن يكون قد امتلك هويته الدينية والاجتماعية ومثلهما هويته الثقافية . إنه وبسبب هذه الهوية ، يفتح الآفاق أمام الذاكرة الجماعية للناس ، ويحرك مخيالهم باتجاه فضاءات ورموز لها ارتباط به . والحديث عن الذاكرة الجماعية التي سوف تتخطى فيها العلاقة زمنا بعينه ، لتمتد إلى أزمنة متعاقبة ، وإلى وعي قد لا يكون هو ذاته في مختلف المراحل ، إنما يخدم غرض الكشف عن التاريخية التي سبقت الاشارة إليها .
هنا يكون على المسلم من أجل الكشف عن صحة هذا الطرح النظر إلى الكعبة ، والبيت الحرام ، ومثلهما إلى المسجد الأقصى ومراقد الأئمة والمساجد الملحقة بها . أو في تعبير آخر أكثر التصاقا برسالة المكان المقدس التي يرسلها إلينا ، كيف يقرأ المسلم مجموع هذه الأمكنة ، بهدف معرفة مغزى الشيفرات الماثلة في أبنيتها ؟ وقبل أية إجابة ، فإن طريقة القراءة الناجحة تحتم استحضار كل ما له علاقة بتاريخ كل مكان من هذه الأمكنة ، وذلك على اعتبار أن القداسة في مفهومها الفلسفي تتعدى الحدود الزمنية للمكان الديني مهما كانت أبعاده وطبيعة حدوده .
والأمكنة أعلاه ليست مجرد كتل من الحجارة أوالطين وضعت فوق بعضها في ترتيب ما ليمتلئ هذا الفراغ أو ذاك بها . ونحن في الغالب عند قراءتنا لأي منها ، نصرف النظر عن شكل المعمار لصالح أشواق أخرى ، نحملها في دواخلنا ، دينية بالدرجة الأساس . ومعنى هذا فإننا أمام قراءة منحازة منذ البداية ، تمثل انعكاسا لكل ما في أعماق وعينا ومخيالنا الجماعي، بدلالة أن ما يراه المسلم في أي من هذه الأمكنة ، لا بدّ أن يختلف عما يراه الآخرون من غير المسلمين فيها . ففي حين يتماهى الواحد منا فيها ، ويتوحد معها ، فإن الآخرين لا يمكن أن يمروا بالحالة ذاتها . ومن المهم أن ندرك هنا ، أن العلاقة التي تجمعنا بها ، سوف تحتفظ بمطلقها الزمني ، وذلك بالنظر إلى ما تحتله في مخيالنا وثقافتنا . إن فارق الثقافة الذي يتمثل هنا بما يتركه الدين في النفوس ، يظل هو الجوهر في هذه العملية كلها ، ولا يمكننا أن نقرأ أيا منها بمعزل عن تأثيراته فينا . والدين هو الآخر ما يميز نظرة اليهود في موازاة ذلك إلى ما يسمونه الهيكل مثلا، بصرف النظر فيما إذا كان مثل هذا المكان حقيقة أم مجرد وهم اختلقته عقول طامعة في قطعة أرض تسعى لامتلاكها .
لقد حلت الرموز في الحياة اليهودية ، وترافقت مع ما يسميه الدكتورعبد الوهاب المسيري انشغال العقل اليهودي بالمطلق والأزلية دون التفاصيل ، فظهرت مصطلحات وتسميات كمثل الهيكل وحائط المبكى وأرض الميعاد وسواها . وهي تسميات ترتبط كما نلاحظ بالمكان ، كما أنها ذات امتداد ديني ، بقي الوعي اليهودي يتشبث به ، على اعتبار أنه جزء من التاريخ اليهودي . لقد تشبث اليهود بكل هذه التسميات واعتبروها الصخرة التي سوف يقوم عليها بنيان الدولة اليهودية . وبالطبع فإن مثل هذه التسميات تحيلنا إلى أبنية رمزية مرتبطة بالمكان .
ويمكننا فهم هذه الأبنية الرمزية من خلال الوقوف أمام ما يعرف ب
( إعلان استقلال الدولة اليهودية). فهذا الاعلان يشير إلى ما يطلق عليها تسمية (صخرة إسرائيل) التي يقف حائط المبكى في وسطها . وصخرة إسرائيل كما يمكن أن نستدل إليها من قراءة مختلف أجناس السرد العبرية ، هي البؤرة ـ السرّة التي يتم تأسيس المكان المقدس ابتداء منها ، في حين يعد حائط المبكى الرمز الماثل للهيكل . ويمكننا القول بأن فكرة المكان المقدس هي الأهم في المخيال الجمعي اليهودي ، وهي الصخرة التي ستقوم الدولة لاحقا فوقها . وليس ثمة ما هو أقدر على توضيح فكرة التقديس الجمعية من قيام اليهودي ـ أي يهودي بمجرد الوصول إلى فلسطين ، بزيارة حائط المبكى، إما بسبب السعي لنيل ما يسمونها التبريكات،أومن أجل التقرب من ( يهوه) ربّ القبيلة اليهودية الذي يمهدون الأرض لاستقباله حينما يجيء لتأسيس مملكته في الأرض ، وحيث تكون القدس عاصمته .
والهيكل الذي يعتبر من أهم الرموز في المخيال اليهودي ، يكشف لنا عما يمكن أن نسميها الرغبة الجماعية في الاحتماء به من أجل المحافظة على الذات من طوفان الآخرين . ولقد استفادت التوراة كثيرا من الطاقات الكامنة في المكان حينما يتحول من مكان عادي إلى مكان آخر يمتلك صفة القداسة. ويمكننا بعد التوقف أمام ما تحمله مختلف المتون في النص التوراتي، معرفة كيفية قيام المكان المقدس بتنشيط الذاكرة الجمعية وتحريك المخيال، وكذلك معرفة كيفية استحضار رموز الزمن ( الملحمي ، الميثولوجي ، الأسطوري، المقدس ) بهدف تحقيق غاية الدين ، التي هي غاية كاتب النص التوراتي ، الذي يمتاز بالبحث عن الدنيوية أكثر منه بالبحث عن الأخروية .
بيد أننا لسنا هنا بصدد إجراء مقارنة بين المكان في التوراة ، وبينه في النصوص العبرية ، فهو في التوراة يقدم نموذجا لكيفية النجاح في الضغط على القارئ ، وذلك بسبب ما يحمله من تأثيرات واقعية وسريالية ونفسية وحتى رموزية . وهو ـ المكان في التوراة ، سوف يمكن الناقد من اختبار صحة مقولة جاستون باشلار حول العلاقة المتبادلة بين المكان وكاتب النص . لقد قال باشلار" إن المكان لا يصوغه المؤلف ، وإنما هو الذي يمارس بدوره هذه الصياغة مع الكاتب " ، وهذا هو نفسه ما نراه في التوراة التي يمارس فيها المكان دوره في صياغة كاتبهاعزرا .
يرى أكثر من باحث في تاريخ الأديان ، بأن سفر حزقيال كان هو أول من فلسف لليهود مسألتي النفي والعودة . ولأنه هو الذي تمت كتابته أولا ، فإن بقية الأسفار التي كتبت في وقت لاحق لتاريخ كتابته ، واصلت العزف على وتر الحنين لأرض الميعاد ، وعلى وتر الرغبة بالخلاص من الشتات بالعودة إليها . وعلى هذا فقد تمت صياغة الشخصية اليهودية على وفق ما كان كاتب النص يحلم به ، من الوصول إلى جبل صهيون . وهنا نسأل : كيف تم تقديم جبل صهيون للمتلقي اليهودي ؟
لقد حدث ذلك من خلال تقديم وقائع يرى الكثير من المؤرخين أنها مختلقة ، وأنه جرت عملية زراعتها في المخيال اليهودي ، باعتبارها ذكريات حملها اليهود الأوائل الذين تعرضوا إلى ما يقول عنه النصّ الدينيّ أنه السبي من أرض الآباء والأجداد إلى أرض المنفى في بابل . وقد صاحب ذلك التركيز على فكرة حنين اليهود لجبل صهيون ، الذي أعلت الأسطورة الدينية مكانته ، ووضعته في رأس قائمة الأمكنة المقدسة .
إن المكان من خلال توظيفه في النص التوراتي ، يؤدي وظيفة بالغة الأهمية . وأما قداسته فإنها على الرغم من الآختلاف حول صحتها ، فأنها تظل عامل الجذب الذي لا يستطيع اليهودي مقاومة إغراءاته ، تماما وعلى غرار ما يحدث مع الآخرين في تعاملهم مع أماكنهم المقدسة الخاصة بهم . وفي كلمات أخيرة ، فإن هذا المكان الذي تقدس باليهودية ، يفتح الذهن اليهودي على عوالم مختلفة ، ليصبح حالة نفسية تتكامل مع الفرد والمجموع اليهودي في وقت واحد ، وبما يفضي إلى التاريخية حتى وإن
كانت مفتعلة ، أو مختلقة بحسب تعبير كيث وايتلام صاحب الكتاب الشهير ( اختلاق إسرائيل القديمة ).